دوناروما وبوفون.. سلالة "جيانلويجي" التي صنعت المجد لإيطاليا
تميّزت إيطاليا على مدار التاريخ بتخريج أفضل المدافعين في العالم، ولم يضاهِ أحدٌ مطلقاً جودة مدافعي الآتزوري وقوتهم وشراستهم، إلى درجة أن منصّات جوائز الكرة الذهبية في العصر الحديث شهدت وقوف لاعبينِ إيطاليين فقط، هما المدافعان باولو مالديني الذي حقق المركز الثالث عام 2003، وفابيو كانافارو الذي حقق المركز الأول عام 2006.. استهلال ضروري لمعرفة مكانة المدافعين التي فاقت مكانة لاعبي الوسط والهجوم في بلاد البيتزا والباستا، بيد أن الطليان برعوا في مركز آخر أيضاً، مركزٌ يُقال عنه نصف الفريق، وفي حالة الذهاب إلى ركلات الترجيح فإنه يصير الفريق "كُلّه".
أساطير حراسة مرمى إيطاليا
وربما يكون منتخبا إيطاليا وألمانيا الوحيدَينِ في أوروبا اللذينِ لم يشهدا أي انحدار في مستوى حُرّاس المرمى طوال التاريخ، هذا المركز بالتحديد لم يعانِ فيه الطليان والألمان مطلقاً في أي مسابقة كبرى، بل كان نقطة تفوّق واضحة، بداية مثلًا من دينو زوف الفائز بمونديال 1982 وكأس أوروبا 1986 مع إيطاليا، ثم والتر زينغا الأسطوري الذي حرس عرين الآتزوري في موندياليي 1986 و1990، مروراً بجيانلوكا باليوكا وقيادته إيطاليا إلى نهائي مونديال 1994، وفرانشيسكو تولدو الذي أبهر الجميع في كأس أوروبا 2000 عندما أصيب بوفون.
بوفون نفسه هو التاريخ وصاحب النجمة الرابعة في مونديال 2006، وقد سلّم اللواء إلى دوناروما منذ سنوات,والذي سار على هذا المنوال وجلب كأس أوروبا 2020.
ماذا قدّم دوناروما في كأس أوروبا 2020؟
لو وضعنا كل المباريات جانباً واكتفينا بالحديث عن مباراة نصف النهائي أمام إسبانيا والمباراة أمام إنجلترا، فإن ذلك سيكفي لترجيح كفة دوناروما، أي حارس يستطيع التصدي وقيادة منتخب بلاده في مباراتين متتاليتين في ركلات الترجيح؟ لقد فعلها دوناروما وأوقف ركلة الإسباني موراتا ليتقدم ببلاده إلى النهائي، ثم تصدى لركلتي الإنجليزيين سانشو وساكا في المشهد الختامي، ووقف بكل برود أعصاب غير محتفل ليظهر لنا شخصية قيادية صارمة بامتياز.
نال دوناروما جائزة أفضل لاعب في كأس أوروبا 2020، ليصبح ثاني لاعب فقط في تاريخ المسابقة ينال الجائزة بعد بيتر شمايكل عام 1992، بل أضاف إليها جائزة أفضل حارس مرمى، ليجمع بين جائزتين قيّمتين في هذا العمر المبكّر، ولم يكن أقل شأناً في دور المجموعات والأدوار الإقصائية، فجميعنا يتذكر تصديه المزدوج لكرتي السويسري ستيفن زوبير، وإيقافه الصعب تصويبة الإسباني داني أولمو من داخل الصندوق.
مكاسب وأرقام دوناروما من تلك البطولة متعددة الجوانب والأنواع، فمثلًا ركلات الترجيح التي خاضها أمام إنجلترا في النهائي حملت الرقم 5 في مسيرته بشكل عام مع ميلان والمنتخب.. الرائع أنه فاز في جميع المناسبات الخمس ولم يخسر قط في ركلات الترجيح، رقم آخر هو أن دوناروما منذ المباراة الأولى مع إيطاليا عام 2016 لم يستقبل في أي مباراة أكثر من هدف واحد، وخرج 18 مرّة بشباك نظيفة من أصل 33 مباراة دولية، ما يعني أنه حافظ على نظافة شباكه في أكثر من نصف مبارياته مع إيطاليا.
من جيجي إلى جيجيو
يقول جورجيو كيليني، أحد أبطال ملحمة نهائي ويمبلي 11 يوليو/ تموز في لندن وصاحب الشدّة الشهيرة للإنجليزي بوكايو ساكا في مقابلة مع قناة "ITV SPORTS: "إن الكرة الإيطالية انتقلت من مرحلة "جيجي بوفون إلى جيجيو دوناروما"، ويرى أنه لاخوف أبداً على مستقبل الحراسة في ظل وجود قيمة ثابته بحجم هذا الحارس العملاق، ويشاطره شريكه في الخط الخلفي ليوناردو بونوتشي الرأي بقوله: "أنا محظوظ للغاية لأنني لعبت إلى جانب بوفون، والآن ألعب مع دوناروما، إنهما الشيء نفسه! انعكاس تام لبعضهما".
لكن ماذا عن رؤية بوفون نفسه لدوناروما؟ في عام 2017 سُئل بوفون في مقابلة خاصة مع "Copa90" عن خليفته في حراسة مرمى المنتخب الإيطالي، وكان دوناروما حينها يخطو خطواته الأولى في عالم كرة القدم بعمر 18 عاماً، ولم يكن معروفاً كما الحال الآن، وعلى الرغم من كل ذلك فقد كانت إجابة بوفون واضحة: "أكثر ما يثير اهتمامي هو دوناروما، إنه طفل صغير بمهارات غير عادية".. وفي العام نفسه صرّح أسطورة الحراسة الإيطالية دينو زوف قائلاً: "مستوى دوناروما أفضل منّي عندما كنت لاعباً".
استقبال– ركنية ومُدافع– ركلات ترجيح ومعانقة الكأس
السيناريو الذي مرّت به إيطاليا في طريقها إلى لقب كأس أوروبا 2020 يشبه إلى درجة كبيرة ما حدث في نهائي مونديال 2006 أمام فرنسا، فكلتا البطولتين مثلًا كانتا خارج الديار، تقدّم زيدان أولًا للديّكة ثم عادل "المدافع" ماركو ماتيراتزي النتيجة لإيطاليا من ركلة ركنية، وفي 2020 تقدّم لوك شاو ثم عادل "المدافع" ليوناردو بونوتشي النتيجة من ركلة ركنية أيضاً.
استقبلت إيطاليا أولاً في كلتا المباراتين ثم تعادلت عن طريق "مدافع" وركلة ركنية، وذهبت الموقعتان إلى ركلات الترجيح وانتهى الأمر بفوز الطليان، الحارس هو نفسه "جيانلويجي"، هناك في برلين كان بوفون وهنا في لندن دوناروما.. لا يمكن أبداً نسيان التصدي الخارق من بوفون لرأسية زيدان في الأشواط الإضافية.
بوفون يعود بالزمن ودوناروما ينطلق
في الوقت الذي يستعد دوناروما (22 عاماً) لتوقيع أول عقد احترافي خارجي في مسيرته، وهنا الحديث عن باريس سان جيرمان الفرنسي، يعود بوفون إلى الفريق الذي أبرم معه أول عقد احترافي في مسيرته أيضاً، وهو بارما في عام 1994، حينها لم يكن دوناروما قد رأى نور الحياة بعد.
ومن المصادفات أن توقيت عودة بوفون (44 عاماً) إلى حيث بدأ، هو نفسه توقيت انطلاقة دوناروما في الملاعب الأوروبية كحارس من الصف الأول وأحد أبرز الحُرّاس في العالم، لما أظهره من شخصية وهدوء أعصاب خلال مشوار كأس أمم أوروبا 2020.. وكأن جيجيو، بكل هذه الأرقام والمصادفات، يقدم نفسه بديلًا لجيجي!
دوناروما- بوفون- سيريغو.. والبيت الباريسي
إحدى المفارقات الطريفة أن دوناروما اختار الانتقال إلى باريس سان جيرمان عقب انتهاء عقده مع ميلان، وهو نفسه الفريق الذي لعب له بوفون في موسم 2018-2019، ويمكن ملاحظة أن الحارس الصغير يسير على خطوات العملاق بوفون نفسها حتّى في اختيار الأندية، ويقول دوناروما إنه يحتفظ حتى اليوم بملصقات بوفون على جدار غرفة نومه، فهو مثله الأعلى منذ الطفولة إلى الآن، ومن غير بوفون؟
لدى سؤاله من قبل يومية "لاغازيتا ديلو سبورت" الإيطالية قبل عامين عمّا إذا كان يرى نفسه مثل بوفون، أجاب: "لا، إنه أفضل في كل شيء، إنه رقم واحد في التاريخ، لا أحد يتغلب عليه، إنه قوي للغاية، لا يزال الأعظم".
قبل الذهاب إلى ركلات الترجيح ضد إنجلترا، كان آخر شخص تحدّث إليه دوناروما هو زميله الحارس الاحتياطي سالفاتوري سيريجو الذي لعب 190 مباراة خلال 4 مواسم مع باريس سان جيرمان، ونقل إليه بعض خبراته في التصدي لركلات الجزاء طبقاً لتصريحات القائد جورجيو كيليني، فهل بات باريس تميمة الحظ للُحرّاس الطليان مؤخراً؟
بوفون الأعظم
رُغم مستويات دوناروما المذهلة وشخصيته القوية مقارنه بعمره، فإن بوفون خارج سرب المقارنة، هو الحارس الأعظم لربما في تاريخ كرة القدم، أرقامه تحتاج إلى ملفات لسردها وتفنيدها، يكفي مثلًا أنه الوحيد من أقرانه الذي فاز بجائزة أفضل لاعب في أوروبا وكانت عام 2003، الحارس الوحيد في الجيل الحالي الذي حلّ ثانيًا في ترتيب الكرة الذهبية عام 2006، لم يعادل أي حارس هذا الإنجاز. خاض بوفون 5 نسخ من كأس العالم بقميص إيطاليا وهو رقم قياسي عالمي.
سيتم بناء تمثال لبوفون في مسقط رأسه بمدينة كرارا في إقليم توسكانا، هذا الإقليم الذي يتميّز بالرخام الأفضل في ربوع أوروبا والذي استخدمه الفنّان الإيطالي مايكل أنغلو في صناعة تمثال "داوود" الشهير في العصور القديمة، إقليم توسكانا بالمناسبة هو مسقط رأس المدرب الإيطالي الشهير ماوريسيو ساري، لذلك يُعرف في الصحافة المحلية باسم "المصرفي التوسكاني" نظرًا إلى عمله في أحد البنوك قبل امتهانه التدريب.