الأتزوري الإيطالي.. غياب مونديالي مؤلم!
ليس هناك من لا يبدي تقديرًا للكرة الإيطالية بتاريخها الطويل والعريض الزاخر بالألقاب والعجائب أيضًا، من التتويج بلقب كأس العالم أربع مرات إلى معانقة كأس أمم أوروبا مرتين، والرصد لا يتوقف عند حدود ميلان، الذي يقف خلف ريال مدريد في عدد مرات الفوز بدوري أبطال أوروبا.
وليس هناك من لا يبدي عشقه للكرة الإيطالية، أيام فاكيتي وماتزولا ودينو زوف وباولو روسي وروبرتو باجيو وباولو مالديني وغيرهم من النجوم الزرقاء، الذين أثروا بطولات كأس العالم قديمها وحديثها.
بالمقابل ليس هناك من لا يبدي انزعاجه وألمه وأسفه على غياب الأتزوري عن مونديال قطر، وهو المنتخب المعدل نفسه الذي فشل في بلوغ نهائيات كأس العالم الماضية بروسيا بصورة مثيرة للاستغراب.
يمكنك مع منتخب إيطالي غريب الأطوار أن تستعين بكل متواليات التندر والندم، تمامًا مثلمًا أنك مطالب باستحضار كل مصفوفات الإطراء والإعجاب، في تناقض يختلط فيه الحزن بالفرح دون أن تعرف لماذا يفوز الطليان في وقت يتوقع لهم الجميع الخسارة؟ ولماذا يخسرون في وقت نتوقع لهم الفوز الساحق الماحق؟
هذا هو المنتخب الإيطالي؛ مر في مرارة العلقم أحيانًا، وحلو المذاق أحيانًا أخرى، يُسعدك عندما يصل الإحباط منتهاه، ويُتعِسك عندما يبلغ سيل التفاؤل الزُبى، لا يمكنك أن تتنبأ متى يفوز ولا متى يخسر؟
وإذا كان الأتزوري يطعمنا بطولات وألقابًا بنكهة البيتزا والسباغيتي حد التخمة، إلا أنه فجأة يخذلنا، فتتبدل أحوال طقسه، ويصبح حاله مائلًا، بصورة تثير غيرة برج بيزا المائل.
وما يدعو لاستعارة عبارة "يا للهول"، لصاحبها عميد المسرح العربي يوسف وهبي، أن المنتخب الإيطالي الذي فاجأنا الصيف قبل الماضي بفوزه بكأس أمم أوروبا في ويمبلي، هو نفسه الذي انكسرت أشواكه الحادة أمام منتخب مغمور اسمه مقدونيا الشمالية في تصفيات كأس العالم، فغادر في سذاجة يجر خلفه أذيال الخيبة المونديالية.
وفي وقت وصلنا فيه إلى قناعة مفادها أن هذا المنتخب مع مدربه روبرتو مانشيني، سيحتاج إلى وقت طويل للتعافي من آثار زلزال مقدونيا المدمر، فاجأنا بطريقة غير متوقعه بتصدر مجموعته في دوري الأمم الأوروبية، على حساب منتخبات ألمانيا والمجر وإنجلترا.
عُد قليلًا بالذاكرة إلى الوراء، واستقرئ من الأرشيف كل مفارقات ومتناقضات الكرة الإيطالية، ستكتشف أن الطليان يجيدون التألق تحت الضغط، ويلمعون تحت تأثير الفضائح، أمرهم عجيب ومريب أيضًا.
في مونديال إسبانيا عام 1982، استعان المدرب الداهية إنزو بيرزوت، بمهاجم "خريج سجون" لم يكن باولو روسي قد تعافى من آثار تهمة التلاعب بمباريات فريقه في الدوري الإيطالي، حتى تفاجأ باستدعاء الناخب الوطني، وعلى بعد شهرين على انطلاقة كأس العالم.
"قامت الدنيا على بيرزوت في إيطاليا ولم تقعد"، ونعتته الصحافة هناك بأقذع الأوصاف وأقسى الكاريكاتيرات الساخرة، لكنه تعامل مع هذا الهجوم بأذن من طين وأخرى من عجين.
كان مستوى روسي في دور المجموعات عاديًا ومخيبًا للآمال، فلم يقدم دليلًا واحدًا أمام بولندا وبيرو والكاميرون على أنه يستحق اللعب في كأس العالم، لكن هذا المارد الخجول والمتجهم دائمًا خرج من القمقم الأزرق بعد ذلك، فاجتاح مرمى البرازيل وبولندا وألمانيا الغريبة، والنتيجة أن الأتزوري توج باللقب، وحاز روسي على لقب هدّاف كأس العالم بستة أهداف كاملة الدسم.
بارحة إيطاليا 1982 تكررت تقريبًا بنفس السيناريو في مونديال ألمانيا 2006، ففي أجواء داخلية مسمومة وملبدة بالفضائح انتهت بإدانة نادي يوفنتوس وتهبيطه إلى الدرجة الدنيا، على خلفية رشوات وتلاعب بالمباريات، تألق المنتخب الإيطالي إلى أن خطف كأس العالم من منقار الديك الفرنسي، في نهائي مشهود، عرف طرد العبقري الفرنسي زين الدين زيدان قبل 10 دقائق على نهاية الوقت الإضافي الثاني، إثر ملاسنة حادة مع سليط اللسان ماركو ماتيراتزي.
كانت أكبر خيبة ألمت بالكرة الإيطالية غياب أزرقها عن مونديال روسيا الأخير، لكن المنتخب الإيطالي دون سابق إنذار خرج من قمقمه كالمارد ليتوج بطلًا لأمم أوروبا في ويمبلي صيف 2021، ثم أعقب هذا التتويج خروجًا مذلًا من تصفيات كأس العالم الحالية بهزيمة مدوية ومروعة من طرف منتخب مقدونيا الشمالية، بصورة فاقت العار الذي لحق بالكرة الإيطالية في مونديال 1966، عندما خسرت أمام كوريا الشمالية وعادت إلى بلاد نيرون بخفي حنين.
أشعر أن المنتخب الإيطالي قريب تاريخيًّا من شعوب منطقة الشرق الأوسط وصاحب شعبية جارفة، وهو أولى بالمناصرة حتى من بعض الأقربين، والسبب ما فعله عشية تتويجه بلقب مونديال إسبانيا قبل 40 عاما، حين أهدى اللقب للشعب اللبناني، الذي كان وقتها يتعرض لعدوان صهيوني همجي غاشم دون أن يحرك العالم ساكنًا.
بوِّدي لو كان المنتخب الإيطالي حاضرًا في مونديال قطر، لكنت قد نذرت نفسي إزاء موقفه النبيل من لبنان أن أكون مشجعًا ومساندًا له، ولو بالتصفيق من أمام الشاشات الفضية كأضعف الإيمان، لكن الذنب كله يقع على رياح مقدونيا الشمالية التي جاءت بما لم تشتهِ سفن الأتزوري.