بيليه.. الأسطورة عادت للصورة..!

2022-10-15 12:59
بيليه محمولًا على الأكتاف بعد قيادته منتخب البرازيل للقب كأس العالم 1970 (Getty)
محمد العولقي
كاتب رأي
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

لا يختلف اثنان أو حتى ثلاثة على أن الإنجليز هم مَن اخترعوا لعبة كرة القدم الحديثة، وطوروها، ووضعوا لها القوانين والتشريعات واللوائح، لكنهم يوم 21 أكتوبر سيحتفلون رغمًا عنهم بملك الكرة الذي منحها أبعادًا من الابتكار والإثارة والمتعة الكرنفالية.

صحيح أن الإنجليز يُفاخِرون بأنّ كرة القدم خرجت من بيئتهم الضبابية، وصرفوا عليها من دمائهم الباردة، لكنهم يوم 21 أكتوبر سيعترفون أن كرة القدم الحقيقية نمت وكبرت وترعرعت في قارة الأمازون وأعاصير الكاريبي، حيث جعل لها اللاعب رقم عشرة نكهةً تضاهي نكهة البن البرازيلي الشهير.

لن يجد الإنجليز ومعهم "البورد" ليلة 21 أكتوبر مَخرجًا لادعاءاتهم سوى الاحتفال مع العالم بمختلف قاراته بميلاد اللاعب العبقري الفلتة، لأن يوم ميلاده يساوي تاريخ ميلاد كرة القدم الحديثة.

من دون تشويق هتشكوكي، الأمر بطبيعة الحال يتعلق بالبرازيلي إديسون أرانتيس دو ناسيمنتو، عرفتموه بالطبع، إنه البرازيلي بيليه نابغة كرة القدم الذي أسهر الخلق وشغل الناس وشغل الدنيا طوال 82 عامًا.

كل ملاعب العالم تعرف ملكها بيليه عن ظهر قلب، تدين له بالولاء المطلق، فحروف اسمه هي الأثقل في ميزان كرة القدم، شبّهوه في مونديال السويد عام 1958 -وقد كان وقتها ذا الـ17 ربيعًا- بأنه إعصار من أعاصير الكاريبي لا يُبقِي ولا يذر، لا يمكن إلّا أن تنحني أمامه كل الملاعب فتزول المتاعب.

سيحتفي العالم يوم 21 أكتوبر بعيد ميلاد جوهرة كرة القدم الثاني والثمانين، اللاعب البارع الذي اختاره نجوم الساحرة المستديرة على أنه لاعب القرن الأول دون أدنى منازع، بغض النظر عن الذين يدّعون وصلًا بالأرجنتيني اللامع دييغو أرماندو مارادونا.

كل العالم أحب بيليه وعشق فنه الرفيع وأخلاقه العالية التي تحلى بها، تمامًا مثلما ظلّت حياته الخاصة ناصعة البياض، خاليةً من أيّ تجاوز أو خروج عن النص.

لم يغشّ يومًا في مباراة أو يخدع حكمًا أو يتحايل على خصم أو يستفز منافسًا، كان فقط سفيرًا فوق العادة للسامبا البرازيلية، وعن طريق أهدافه التي تجاوزت الألف هدف، ورقصته الشهيرة، ميّز العالم بين إثارة السامبا ورتابة الرومبا والتانغو.

اسمه يساوي كرة القدم بكل تاريخها الطويل، حتى إن إرثه الكروي الضخم يرشحه كثيرون ليكون مُؤرَّخًا يحكي قصة معشوقة ضلّت طريقها في بلاد الإنجليز حتى عثرتْ على ملكها في ذات مونديال أوروبي شديد السخونة.

تستحق أهدافه التي بلغت بدقة الرصد 1281 هدفًا أن تكون أبجديات لكرة القدم الحديثة، وتستحق أخلاقه الرفيعة أن تكون ميثاقًا للعب النظيف، فلا أحد قبله أو بعده احتفظ بنبل أخلاقه ونجوميته وشهرته كاملةً حتى بعد أن غادر الملاعب مع الأسف والاحترام قبل 45 عامًا.

مع كل عيد ميلاد، تعود الأسطورة للصورة بنفس الزخم واللهفة والشوق لهذا الملك، وكأنه ما زال يافعًا يركض في الملاعب دون توقف.

هل عندك فكرة عزيزي القارئ عمّا سيفعله بيليه ليلة 21 أكتوبر؟

كالمعتاد سيذهب إلى ضريح والده، وهناك سيشعل شمعته الثانية والثمانين، ثم سيعود بالذكرى إلى الوراء وتحديدًا إلى ذلك اليوم الكبيس من العام 1950.

في ذلك اليوم العصيب على البرازيليين، خسر منتخب طيور الكناري الصغيرة المباراة النهائية لبطولة كأس العالم في استاد ماراكانا أمام 205 آلاف مشاهد، وتُوِّج منتخب الأوروغواي بالبطولة، وهو ما دعا البرازيليون إلى إطلاق لقب "ماراكانازو" على استاد ماراكانا تعبيرًا عن الكارثة وأحزانهم الدفينة بخسارة اللقب.

في ذلك اليوم، كان ماسح الأحذية الصغير (بيليه) يستمع مع والده للوصف التفصيلي للمباراة عبر الراديو، وحين انتهت المباراة بخسارة البرازيل، نظر الصغير إلى والده فوجده يبكي بحرقة شأنه شأن أي مواطن برازيلي.

تقدَّم الصغير من والده، بعد أن وضع صندوق مسح الأحذية جانبًا، وربت على رأسه قائلًا: "لا تبكِ يا أبي، ففي يوم ما سأفوز بكأس العالم"، ثم احتضن والده في حنان، وقد برقت عيناه بوميض فيروزي مخيف، مضيفًا في حزم: "هذا وعد يا أبي".

لم يكن الأب لحظتها يدرك أن القدر سيكافئ الصغير بيليه بأسرع ممّا كان يتصور، و لم يدر بخلده أن شبله ذا الـ17 ربيعًا سيفعلها ويُرغِم العالم على الانحناء له، فبعد ثماني سنوات عاد بيليه من السويد بطلًا للعالم كما وعد والده، وكانت أهدافه الستة في مرمى ويلز وفرنسا والسويد السلم الذي صعد به السيليساو نحو القمة.

بدا وقتها، وكأنّ الأرض البرازيلية قد انشقت، فأخرجت هذا المارد الجبار الذي أعطى كرة القدم عنوانًا جديدًا، فحوّلها من مجرد لعبة صراع وركض إلى لعبة فن ومهارة وذكاء وأخلاق فرسان.

وفي بلدٍ ديانته الأولى كرة القدم أصبح بيليه -بعد مونديال السويد- بالنسبة للبرازيل قديسًا يَصعُب المساس به، ولأنه كان في نظر الأوروبيين بالذات منتخبًا متكاملًا يستحق أن ترصده كل رادارات الدفاع وتُخضِعه لرقابة عنيفة وقاسية، فقد دفع بيليه الثمن غاليًا في مونديال تشيلي 1962، عندما خرج مصابًا في المباراة الأولى، ثم تابع زملاؤه، بقيادة الرهيب غارينشيا، وهم يحتفظون باللقب عن جدارة.

وبالقدر الذي كانت فيه الأمة البرازيلية تُعوِّل على بيليه للفوز بكأس العالم للمرة الثالثة على التوالي في إنجلترا 1966، كان المدافعون يكشرون عن أنيابهم في وجه بيليه، إلى أن أرغموه في مباراة المجر على نسيان "الثالثة ثابتة".

وقتها لم يجد بيليه الحماية المطلوبة من الحكام، وتَملَّكه شعورٌ بأن مسيرته في الملاعب مُهدَّدة طالما كان هدفًا للعنف مع سبق الإصرار والترصد، لكن رئيس البرازيل تدخَّل في الوقت المناسب، فاقنع بيليه بقيادة السيليساو في مكسيكو 1970.

وهناك في ملاعب المكسيك، بصم بيليه على تألقٍ لافتٍ، لدرجة أن هذا المونديال ارتبط باسمه، فبين التسجيل والقيادة البارعة، مَهَّد بيليه معظم أهداف المنتخب البرازيلي في البطولة، وسجل أغلاها، فانتهى المطاف بالاحتفاظ بكأس "جول ريميه" إلى الأبد، واستحق بيليه أن يضيف للمكسيك ملكًا جديدًا يُضاف إلى ملوك شمس الأزتيك.

لطالما انشغلت البشرية كثيرًا بعبقرية ألبرت أينشتاين، صاحب نظرية النسبية المعقدة، طوال القرن الماضي، لكن إحقاقًا للحق لم يكن أينشتاين وحيدًا في الساحة، فهذا بيليه أول من أسدى خدمات جليلة للبشرية، حين جعل كرة القدم لعبة سعادة وتغيير، وليست لعبة تعاسة وتدمير.

إذا كان لمملكة كرة القدم ملك تدين له الملاعب بالسمع والطاعة، فلن يكون هذا الملك سوى الجوهرة بيليه، وهذا لسان حال أرقام الواقع:

  • فاز بكأس العالم ثلاث مرات (رقم قياسي لن يتحطم خلال قرن).
  • فاز ببطولة مقاطعة ساو باولو 11 مرة.
  • فاز بكأس الولاية المشتركة 4 مرات، ومِثلها بالدوري البرازيلي.
  • فاز بكأس العالم للأندية مرتين مع سانتوس.
  • لعب مع الأندية 1255 مباراة، ومع المنتخب البرازيلي 108 مباريات.
  • سجل في حياته الكروية الحافلة بين عامي 1956 و1974 حوالي 1281 هدفًا.

هذا مجرد غيض من فيض أرقام ملك كرة القدم بيليه، ليكون التعريف المختصر لعالم كرة القدم، ولولاه لكانت كرة القدم كلها "ماراكانازو".

شارك: