ويسألُني "المونديال": مَن الذي أرخَصَنَا؟!
بدأت دول الرّجل الأبيض هجومها على قطر منذ اللّحظة الأولى لإعلان استضافتها للمونديال، وتعالَت حمحمة الحملة مع اقتراب انطلاق البطولة، وازدادت مع إعلان الدّولة المضيفة أنّها لن تسمح بأيّ سلوكٍ يتعارض مع القيم والأخلاق والثقافة والدّين الذي تنتمي له، وفي النهاية لم تملك هذه الدول إلّا الرضوخ والامتثال على الرغم من استمرار حملات التشويه الإعلامي ومحاولات التشويش التي لم تقدّم أو تؤخّر.
وأنا أرى هذا المشهد الذي يشي بالكثير من المعاني وأهمّها أننا نستطيع أن نكون ونقدر أن تكون لنا مكانة وقيمة؛ يطرق سمعي سؤال وكأنّ ملاعب المونديال هي التي تسألني إيّاه: ما دمنا قد استطعنا أن نكونَ كما نريدُ في هذا المحفل الرياضي الأهم؛ فلماذا نبدو بلا قيمة في محافل أخرى لا سيما في تعامل الغرب معنا؟
لِمَ اعتدنا على لطم الخدودِ وشقّ الجيوبِ منَّا على مكانتنا التي لا يلتفتُ إليها أحد؟ وعلامَ يعلو عويلُنا على الدّوام على ازدواجيّة المعايير التي يمارسُها الغرب معنا، والرّثاءُ لحالنا التي لا بواكيَ لها؟
الإنسانيّة المصلحيّة وضَعفُنا
مَن ما زال معتقدًا أنَّ موجات التّضامن الدّوليّة والرّسميّة من الغربِ أو معه تحرّكها الإنسانيّة الرّهيفة في قلوبِ القومِ فعليه الخروج من مستنقع السّذاجةِ والبلاهةِ.
فمشاعرُ السّاسة إنّما تولّي وجهها حيثما كانت المصلحة، وحيثما كانت القوّة فَثَمّ المصلحة؛ فأيّنَ قوّتنا ومصلحةُ القومِ معنَا؟!.. فالضّعيفُ لا يكترثُ له أحد، والنّمور بلا أنياب ومخالب ترفسُها الضّباع ولا تلقي لها الأرانب بالًا، فضلًا عن ازدراء جوارح الغابة لها.
إنَّنا -نحن لا غيرنا- من يتحمّل المسؤوليّة بضعفنا وهواننا عن إرخاص دمائنا وأرواحنا ومكانتنا وأنفسنا، ونحن لا سوانا من جعلنَا دمنا في موازين الأمم أخف من دمائهم، وموتنا أرخص من موتهم، وجعلنا حياتنا لا قيمة لها مقابل حياتهم، وفقدنا قيمتنا أمام ما يعلنون من قيمتهم.
قُل عن الغرب ما تشاء؛ قُل: إنّه مجرمٌ وازدواجي ومنافق... إلخ؛ فلن أناقشكَ في كلّ هذا، ولكنّه رغم كلّ ما وصمتَه به ليسَ هو الذي أرخَصَنا، بل نحنُ من أرخَصنا أنفسَنا، وهانت علينَا أرواحنا، ولم يعد لنا عندَنا قيمة ترتجى، وقد قالت العرب: أنتَ حيثُ تضعُ نفسَك، فأينَ وضعنَا أنفسَنا؟!
لقد تفرّقَت جهودُنا، وتبعثَرَت قوانَا، وفشلنا إذ تنازعنا، وغلبَتنا العصبيّة المقيتة، واستحوذت علينَا الحزبيّة الضّيقة، واستبدّت بنا الأنا المتضخمة، وغدَت السّهام والنّصالُ الموجّهةُ إلينا منّا أشدّ بأسًا من الموجهة منّا إلى عدوّنا والمرسلةُ منه إلينا، فخارَت قوانا وهُنَّا على بعضنا فكنّا على غيرنا أهون؛ فكيف يكونَ لدمنَا وأرواحِنا قيمة ترتجى؟!
وحيثُما يمَّمتَ وجهكَ ترى الجميع -الإسلاميّين قبل غيرهم- يحدّثونكَ عن ضرورة وحدة الصّفّ وجمعِ الكلمة فتقفُ مشدوهًا ومتسائلًا: فمَن وما الذي يفرّقكم إذن؟!
الاستبداد وإرخاصُنا
ثمّ كيفَ لا تكون دماؤُنا رخيصةً على غيرنا وحياتنا لا قيمة لها بالمقارنة مع حياة الآخرين، ومكانتنا مراقة على أعتاب الأمم وقد أرخصها الطّغاةُ والمستبدّون في ديارنا وأوطاننا؟!
إنَّ الدّماء التي تكون رخيصةً في أوطانها، ورخيصةً عند أبناء جلدتها ودينها بفعل الطغيان والاستبداد؛ لن تكون غاليةً عند المتربّصين بهذه الأوطان وعقائد أبنائها الدّوائر.
وكيفَ لا تكون دماؤنا رخيصةً وقادةُ دولٍ إسلاميّة يحرّضون الغرب على الإسلام فيدعونهم إلى مراقبة المساجد، ويخوّفونهم من المسلمين ويتّهمون ملياري مسلم بالإرهاب؟!
إنَّ ما يدعو له بعض من ينتمي إلى أمّتنا في كثير من لقاءاتهم بالغرب على ضرورة الحذر من المساجد؛ يجعلهم هم ومن سار مسيرتهم سببًا من أسباب إرخاصنا عند احترام الآخرين دماء شعوبهم وأبناء جلدتهم وعقيدتهم.
إنَّ حريّتنا وقوتنا هما السّبيل إلى إيجاد قيمتنا في هذا العالم الذي لا تحكمه المبادئ، ولا مكان فيه للإنسانيّة الحقيقيّة في التعامل بين الدّول ولا يعترف بالضّعفاء.
وإنّ قدرتنا على مواجهة فراعنة الأرض واستئصال العبودية من بلاد العرب والمسلمين؛ السّبيل ليكون لدمنا قيمة في الغرب.
ويقول لي المونديال
إنّي أصيخ السمع إلى مونديال قطر 2022، فأسمعه يقول لي: ألا ترى هذه المرّة أنّ عويلهم هو الذي ارتفع لا عويلنا؟ ألا تلاحظ أنّهم هم من يلطمون الخدود هذه المرّة ويحاولون إظهار استعلائهم فلا يستطيعون؟
أجل؛ لقد أثبت الواقع أنّ قدرتنا على أن نجعل لنا مكانةً في هذا العالم الذي لا يعبأ بالضعفاء ممكنة، ويقول لي المونديال: ها قد تقدمتم خطوةً بل خطوات في طريق إثبات الذّات والمكانة على خارطة هذا العالم فإياكم أن تتراجعوا وتنكصوا على أعقابكم وتنقضوا غزلكم أنكاثًا.