ما سِرُّ العلاقة اللُّغويّة بين الرِّياضة والرِّياضِيَّات؟

2023-02-19 12:17
أرشيفية- ميداليات للرياضي الأوكراني البارالمبي دميترو سوياركو (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

جميعنا يعرف أنّ للرّياضة أنواعاً كثيرة، لكنّ المشهور في استخدام هذه الكلمة هو النّشاط الجسدي، والحقيقة أنّ هناك أشكالاً وأنواعاً أُخرى من الرّياضات التي لا علاقة لها بالجسد مطلقاً، كالريّاضة الذّهنيّة، والرّياضة الرّوحية أو الصُّوفيّة؛ أمّا الرّياضةُ الذّهنية فإنّها تهتمّ بترويض الذّاكرة وتدريبها على الاحتفاظ بالمعلومات بشكلٍ صحيحٍ ودقيقٍ، واستحضارها واستدعائها عند اللّزوم والحاجة إليها.

أمّا الرّياضة الرّوحية فتركّز على تدريبات معيّنة لتقوية الرّوح وبناء اتصال متين بينها وبين الجسد، وينقلنا الحديث عن الرياضة الرّوحية إلى التساؤل عمّا يُسمى بالرّياضة الصّوفية؛ وهي تدريبات نفسيّة تهدف إلى تربية النّفس وتهذيبها وقطعها عن الشّهوات، وإكسابها قدرة على التحكّم بأهوائها وميولها، وتزيينها بالأخلاق الإنسانيّة الحسنة وربطها بالعبادات بأسلوب راقٍ، وجعلها أشبه بعاداتٍ يصعب التخلّي عنها لأنّها جزء من كيانِ المرء وصيرورته في الدّنيا ومآله الذي يسعى إليه في الحياة الآخرة.

قد يقول قائل: لكنّ الرّياضة في العرف العام والاصطلاح نشاط بدنيٌّ يقوم على صَرفِ الجهد والطّاقة لصقل مهارة جسدية وإظهارها بأكمل وجه، وتحكم هذا النّشاط قوانين محدّدة، وتقوم الرّياضة على التّنافس. فنجيب القائل بأنه على صواب؛ لكنّ ذلك لا يلغي وجود أنواع مختلفة من الرّياضات، ويقودنا هذا الحديث إلى أصل الكلمة وتفرّعاتها اللّغويّة.

إنّ لفظ الرّياضة مُفردٌ وجمعه رِياضات؛ وهي كلمة تلتقي في جذرها مع كلمة رياضيّات المعروفة عامّة في الاصطلاح أنّها -كما جاء في تعريفها في المعجم- العلم الذي يُعنى بالإحصاء والجبر والهندسة، ويُعنى بالبحث في العلاقات الرياضية والقياسات مُستعمِلاً الرّموز والأرقام. 

فما العلاقة اللّغوية التي تجمع بين الكلمتين؟ وما القواسم وما النّقاط المشتركة بين المصطلحين؟

تجد في معجم المعاني عند البحث عن كلمة رياضة أنه يستعمل اللفظ للتعبير عمّا نعرفه بالرّياضات؛ فيقول: "علوم الرّياضة هي العلوم التي تدرس الكميّات العدديّة والعلاقات بينها، وتدرس الكمّيّات الفراغيّة والعلاقات بينها أيضاً، وتتضمّن علومُ الرّياضة شُعبَةَ علم الحساب والهندسة والجبر، ولها فروع عدة: كالرياضة البحتة، والرياضة التّطبيقية والرياضة الحديثة".

وهذا يعني أنّ الرّياضيات وعلومها تُعدُّ فرعاً من فروع الرّياضة، وتدخل في إطار الرّياضة الذّهنية، والفرق الدّقيق بين الرياضة البدنية والرياضة الذّهنية أنّ الأُولى تعتني بتدريب الجسد وتقويته وإكسابه مرونةً وخفةً في الحركة، والثانية تهتمّ بتدريب العقل وتقوية الذّهن وصقله وتسريع العمليّات الحسابيّة التي يقوم بها. وعلى الرّغم من أنّ اللّغة تُظهر أن الرّياضيّات المعروفة بعلم الحساب فرع من الرّياضة، فإن كثيراً من الناسِ يطلقون عليها وَصْفَ أُمِّ العُلوم؛ نظراً لتشابكها وارتباطها بكلِّ العلوم القائمة على التّفكير والمنطق والتّحليل، بما في ذلك علم المنطق والكلام حتّى!

يظهر لنا أنّ كِلا اللفظين (الرّياضة والرّياضيات) ينطلق من جذرٍ لُغويٍّ واحدٍ؛ وهو قولنا: راض يَرُوض رَوضاً ورِياضاً ورياضةً، بمعنى ذَلّل وطَوَّع ودَرّب، والمقصود هو التّدريب المستمرّ والمُنظّم والعمل على تقوية مهارةٍ ما لاكتساب المرونة والخفّة والسّرعة في أداء الواجب المطلوب والمُنتظَر من كلِّ نشاط رياضيٍّ، سواء أكان النشاط الرياضيُّ جسدياً أو ذهنياً. 

ولذلك عندما ينسبون شخصاً إلى الرّياضة أو إلى الرّياضات فإنّهم يقولون "رياضيّ" على حد سواء؛ فمن يمارس الرياضة البدنيّة يسمّى رياضيّ، وعالم الرياضيات يُطلق عليه في التعريف به "رياضيّ" أيضاً.

والرّياضيّات كما ذهب كثير من العلماء تندرج تحت العلوم العقليّة لا التجريبيّة، ومنهم من عدّها فرعاً عن الفلسفة؛ فهي من العلوم الإنسانيّة لا التطبيقيّة، لذلك نجد أنّ ديكارت، وهو من أشهر علماء الرياضيات في العصر الحاضر؛ هو الذي اخترع نظاماً رياضياً سُمِّيَ باسمه وهو "نظام الإحداثيّات الدّيكارتيّة"، الذي شكل النواة الأولى للهندسة التحليليّة، وديكارت في الوقت نفسه من أشهر فلاسفة العصر، ويُلقّب بـ"أبي الفلسفة الحديثة".

ترتبط الرّياضة البدنية بالإنسان والحيوان، فهي ترويض للجسد وتدريبه على حركات ونشاط معيّن محصوص بزمان ومكان وإشارات، أما الرّياضة الذّهنية فقوامها العقل لذلك ترتبط بالإنسان فحسب، وتعتمد على تفكيك المشكلات والفرضيات بالاعتماد على التفكير المنطقي، والتسلسل النظري للفرضيات وتحليلها، للوصول إلى الروابط الشائكة فيما بينها وترتيبها وفق نظام يقبله العقل ويجعله ضمن نطاق المنطق البشريّ والفهم الإنساني.

وكما نجد في ساحات الرّياضة أبطالاً مشهورين فإنّنا نجد في مجال الرياضة الذهنية والرياضيات أسماء لامعة لعلماء لهم إسهامات ضخمة في التاريخ الرياضي للبشرية، وأسماء خلّدها التاريخُ باكتشافات وإيجادات رياضية ما زالت حتى يومنا هذا من أهم معالم المسائل الرياضية؛ من أمثال الخوارزمي والطّوسيّ وابن الهيثم، وإقليدس وفيثاغورث وغيرهم كثير.

ولعلّ الكثير من القُرّاء سيتساءلون: ما دامت الرياضيات جزءاً من الرياضة وأنواعها؛ لماذا تتّصفُ بهذا الكمُّ الهائل من الصعوبة في الفهم لدى كثيرٍ من النَّاس؟ والجواب بسيط حقيقةً؛ فتطويع الأجساد يقدر عليه معظم النّاس، ولا نبالغ إذا قلنا جميعهم، لكن تدريب العقول وتطويعها فليس أمراً سهلاً، وبشكل أدقّ: ليس قابلاً للتحقيق كسابقه؛ فالمهارة في الرياضيات هبة ومَلَكة من الله يخص بها مَن يشاء، والتّدرّب والتدريب عليها لامتلاكها هو أمرٌ صعبٌ وبعيد المنال في بعض الأحيان؛ ولعلّ أصعب ما تواجهه الرياضة الذهنية بين النّاس أنهم جميعاً راضون بعقولهم وأفهامهم!. 

شارك: