أبو دُجانَة ذو الأخلاق الرياضية وآخِذُ سيف رسول الله بحقّه
أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاريّ؛ من أميز وأشجع الصّحابة الكرام رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، وله في المبارزة مواقف لا تنسى أشهرها كان يوم أحد.
مَن يأخذُ هذا السّيفَ بحقّه؟
يومَ أحد امتشق رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيفه وأعلنَ عن مسابقةٍ غريبةٍ من نوعِها؛ فقال: "من يأخذ هَذَا السيف بحقه؟" فقام إليه رجالٌ منهم ابن عمّته الزّبير بن العوّام وهو من أشجع فرسان المسلمين فأمسكه عنهم ولم يعطهم إيّاه، حَتَّى قام أبو دجانة سماك بن خرشة، أخو بني ساعدة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قَالَ: "أن تضرب بِهِ فِي العدو حَتَّى ينحني" وفي رواية "ألّا تقتل به مسلمًا، ولا تفرّ به عن كافر"؛ فقَالَ أبو دجانة: "أنا آخذه بحقّه"؛ فأعطاه إيّاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وفي هذا المشهد لفتةٌ إلى أهميّة المسابقات التشجيعيّة في إثارة الحماسة في نفوس الشّباب، وأهميّة الجوائز الرمزيّة في إثارة الحميّة في نفوسهم، فهي مسابقةٌ أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم والجائزة فيها قيمتها المعنويّة والرّمزية بالغة التأثير في النّفوس.
مشيةٌ يحبّها الله ورسوله
أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيفه لأبي دجانة، وَكَانَ أبو دجانة رجلًا شجاعًا خيالًا عند الحرب إذا أقبلت، وَكَانَت له عصابة حمراء يسميها الناس "عصابة الموت" كان إذا عصبها عَلَى رأسه علم الناس أَنَّهُ سيقاتل حتى النّهاية دون أيّ تقاعس، فلمّا أخذَ السيف من يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرج عصابته تِلْكَ فعصبها برأسه، فجعل يتبختر بين الصّفين، ويمشي أمام المشركين مشية كلها الخيلاء والتكبّر؛ وهو يرتجز:
أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِـي خَلِيلِـي
وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيـــلِ
أَنْ لَا أَقومَ الدَّهْرَ فِي الكَيُول
أَضْرِبْ بِسَيفِ الله وَالرَّسُولِ
فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه أبا دجانة يتبختر: "إنها لمشية يبغضها الله إلا فِي مثل هَذِا الموطن ". وهذا فيه رسالة إلى أهميّة الحرب النفسيّة والرسائل المعنوية التي يوصلها المبارز إلى خصومه، فالموقف ليس موقف تواضع أبدًا.
يقول الدّكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه "فقه السيرة النبويّة" معلّقًا على هذا المشهد: "أبو دجانة، الذي تناول السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه، أخذه وراح يتبختر بين الصفوف، فما أنكر عليه رسول الله، وإنما قال: "إن هذه مشية يكرهها الله إلا في مثل هذا الموضع " دلّ على أنّ كلّ مظاهر الكبر المحرّمة في الأحوال العامة، تزول حرمتها في حالات الحرب. فمن مظاهر الكبر المحرمة أن يسير المسلم في الأرض مرحًا متبخترًا، ولكنّ ذلك في ميدان القتال أمرٌ حسن وليس بمكروه.
ومن مظاهر الكبر المحرّمة تزيين البيوت أو الأواني والأقداح بالذّهب أو الفضة. غير أن تزيين آلات الحرب وأسلحتها بالفضة غير ممنوع. فمظهر الكبر هنا إنّما هو في حقيقته افتخار بعزّة الإسلام على أعدائه، ثمّ هو معنى من معاني الحرب النفسيّة التي ينبغي أن لا تفوت المسلمين أهميتها"
إكرام سيف رسول الله صلى الله عليه وسلّم
ذكر ابن هشام في السيرة النبوية أن أبا دجانة رضي الله عنه: "أمعن في صفوف المشركين، وجعل لا يلقى أحَدًا من المشركين إلا قتله، ورأى رضي الله عنه إنسانًا يخمش الناس خمشًا شديدًا، قال: فصمدتُ له، فلمّا حملت عليه بالسيف ولْوَل، فإذا هي امرأة، وهي هند بنت عتبة، قال: فأكرمتُ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة ".
بعدَ انتهاء المعركة قال الزبير لأبي دجانة: "كلُّ صنيعك رأيتُه فأعجبني غيرَ أنك لم تقتلِ المرأةَ، فقال: فإنها نادت -أي استغاثت- فلم يُجبْها أحدٌ، فكرهتُ أن أضربَ بسيفِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم امرأةً لا ناصرَ لها".
وهنا تظهر الأخلاق الرّفيعة في أحلك اللحظات وأشدّ السّاعات قسوة؛ فهذا هو المُبارز الحقيقيّ الذي لا يتخلى عن القيم والأخلاق تحت أيّ ظرف من الظروف، ولا يتعامل إلّا بالسموّ رغم احتدام المواجهة.
هكذا يقدّم أبو دجانة رضي الله عنه نموذجًا على كلّ رياضيّ أن يحتذيه في حماسته ورفعته وسموّه وإقدامه، وما أجمل الإقدام إذا اقترن برفعة الخلق وسمو القيم.