كرة القدم في قصيدة النّجفي.. امرأة أم قنبلة بالساحة الخضراء؟

تحديثات مباشرة
Off
تاريخ النشر:
2023-04-09 13:35
الساحرة المستديرة في الشباك (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

بعدَ تشبيه الشاعر النجفي للعلاقة بين كرة القدم واللاعبين في ذلك الميدان الأخضر بالعشق، ونقله لبعض تفاصيل هذا العشق المتوهج في قوله:

تــَهــوَى فـَـتـَلثـُمُ رَأسَـه أو رِجْـلَه
فـَــيـَــصـُـدّهَــا وبــهِ جـَـوىً وغــَرامُ

ينتقل بنا الشّاعر أحمد صافي النّجفي إلى مشهد آخر ورؤية جديدة له؛ إذ يعدّد صفاتٍ نفسيّة جديدة للكرة التي يرى أنّها تتلاعب بمشاعر اللاعبين والجماهير على حدّ سواء؛ فيقول:

حَـسّـاسَـةٌ أنْ تـَلمـسَ الغـَبـرَا تـَثِب
وتـَطـيـرُ حِـيـنَ تـَمـسّـهَـا الأَقـدَامُ

فالكرة بالغة الحساسية للمس، فهي لا تطيق أن يمسّها أحدٌ، فإن حطّت على الأرض سرعان ما تقفز إلى الأعلى، وإن مسّتها قدم أحد اللاعبين فإنها تحلّق وتطير، حالها كحال الذي يتخبط من المسّ أو الرُّعب فيبقى في فزع دائمٍ ولا يطيق الاقتراب من أحدٍ.

وحساسيتها من اللَّمس تجعلها محلقةً في الجوّ كلّ الوقت، فطيرانها فوق رؤوس اللاعبين وفوق أرض الملعب ليسَ نابعًا من الرغبة في التحليق عاليًا فحسب، بل هو نتاج الحساسية المفرطة من ملامسة أي شيءٍ لها.

تـَخـشـَى بـِأيـدِيـهِـم تـُصـادِف كرها
فالرّجــلُ مِــنــهُــم والثـَّرى وَلهـانُ

وهنا يعمد الشاعر إلى تفسير سبب حساسية كرة القدم من ملامسة الأرض أو أقدام اللاعبين؛ فهي كالأنثى التي تخشى الرّجال والعاشقين أن يصيبوها بكُرهٍ إن سلّمتهم زمام أمرها، أو ركنت إليهم شيئًا يسيرًا؛ فأقدام اللّاعبين والأرض كلاهما ولهان ومستهام بها، راكضٌ خلفها للفوز بها والحصول عليها، لذلك تخشى على نفسها من هذا الوله والهوَس المجنون بها، الذي لا يهدأ في ساحات الملاعب، فسرعان ما تطير إن مسّها شيءٌ منهما.

ثم ينتقلُ الشاعر بعدَ وصف الكرة بالحساسية المفرطة وتفسير سبب ذلك ليحدّثنا عن الوضع الاجتماعيّ لهذه الكرة الحسّاسة؛ فيقول:

لا تـَسـتـَريـحُ بـِوكـرِهـا فـَحَياتُها
فـَـوضَــى ولا شــَرعٌ لهَــا ونــِظــامُ

يبدو من هذا البيت الشعري أن حياة كرة القدم في رأي الشاعر تتّسمُ بأنّها لا نظام فيها، فالفوضى تشكل السّمة الغالبة على حياة كرة القدم، ومن صور هذه الفوضى أنّها لا تقرّ في بيتها، ولا تجلس في مخدعها، فهي كالمرأة التي ما إن يطلع الصباح حتّى تبقى "من بيت شقاع لَبِيت رقاع" كما يعبّر الدمشقيون في أمثالهم الشعبيّة؛ عندما يصفون المرأة التي تدور بيوت الحيّ دون أن تقرّ وتهدأ في بيتها أبدًا.

وتبدو كرة القدم كما يصفها الشاعر النجفي بتعبيرٍ كوميديٍّ كالمرأة المنسلخة من أحكام الشرع، فهي لا تطبّق -ولو ليسيرٍ من الوقت- أوامر الشَّرع، وكأنّ الشاعر يستحضر قوله تعالى للنساء: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ"، ويرى أن هذه الكرة امرأة لا تخضع ولا تنصاع لأوامر الشَّرع وأحكامه! وكأن خصومة واقعة بينها وبين بيتها، فلا تأتيه إلّا بعد أن يخلد جميع اللاعبين للنوم في ساعةٍ متأخرة من الليل، وهذا ما يجعل حياتها كلّها بلا نظام، وتقوم على القلق الذي لا ينتهي؛ فلا استقرار ولا هدوء ولا علم لها بأوقات العمل وأوقات الراحة، فالفوضى باختصار هي الصفة الطاغية على حياة كرة القدم!

 تــَهــوي كــقـُـنــبــلةٍ وكـلٌّ مـنـهـمُ
 فــي قـَـلبــه شَــوقٌ لهَـا وهـيَـامُ

لم يكتفِ الشاعر بتشبيه الكرة بالمرأة والحديث عن صفاتها النفسية، بل ينتقل بنا إلى تشبيه جديد عندما يشبهها بالقنبلة التي تهوي بين اللاعبين، والأصل في القنبلةِ أنّها مبغوضةٌ من النّاس، فحين يرونها أو يستشعرون بها يفرّون منها ويتطايرون يمنةً ويسرةً فزعًا ورعبًا، لكنّ كرة القدم ها هنا تُغيّر نواميس الكون وتحوّل فزع النّاس إلى حُبٍّ وسعيٍ نحوها، فهي كالقنبلة التي يتقاتل النّاس على احتضانها والفوز بها، فكلّ اللاعبين يحملون لها في قلوبهم من الحب والشوق ما يدفعهم إلى التضحية بأنفسهم من أجلها والإقبال عليها، ولو كانت ستودي بحياتهم وترمي بهم إلى المهالك! وحقيقةً يتجلى في مسارعتهم إليها المثلُ العربيّ القائل: "ومن الحبّ ما قتل"!
وبعد هذا الغوص في الأعماق النفسيّة والأوضاع الاجتماعيّة لكرة القدم يأخذنا الشاعر إلى طورٍ جديدٍ من توصيفاته للعلاقة بين الكرة واللاعبين؛ وهذا ما سنقف معه في المقال القادم -وقد يكون الأخير- من وقفاتنا مع هذه القصيدة البديعة.

شارك: