عمر السومة.. "العجاج" الذي فرش في قلب السوريين وتمدد!

تحديثات مباشرة
Off
2023-12-27 02:09
عمر السومة يُعدُّ أحد أفضل المهاجمين الذين أنجبتهم كرة القدم السورية (X/ALDERBYSHOW)
وسام كنعان
كاتب رأي
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

في سنوات الحرب، أطلّ طفل سوري اسمه محمد جنيد من محافظة دير الزور السورية بمقطع صغير انتشر بسرعة قياسية على السوشيال ميديا. كان الطفل الأسمر يربط على كتفيه وظهره شماخًا عربيًا، في تقليد يتبّعه عادة من يعملون في حمل الأوزان الثقيلة، بينما كانت عيناه ترتبك وهو ينظر من نافذة المستودع الذي يعمل فيه، وكأنّه يترقّب بحذر قدوم صاحب العمل مثلًا.

لكن أداءه لموّال حاتم العراقي "ساعة وتغيب الشمس" (كلمات ضياء الميّالي وألحان ماهر أحمد) استمرّ، دون أن يرفّ له جفن، طالما أنه مصحوب بكاريزما واضحة ولا ينقصه شيء من مقومات النجومية.

بالفعل ينهمر صوت الطفل، واثقًا بما يحمله من عذوبة ونقاء، صافيًا كعبوات الماء التي تُشكّل خلفية للمشهد. الصوت كان أكبر بكثير من القامة النحيلة وعمر الطفل الذي لا يتجاوز 12 عامًا. 

المشهد اعتُبِر عند كثيرين بمثابة اختصار مكثّف للمدينة الشرقية المكلومة مرتين: واحدة بفعل الإهمال الحكومي قبيل الحرب، والثانية بذريعة التطرّف والإرهاب الذي اكتسحها مثل الجراد، والحرب التي أبادت معالمها الأثرية ومطارح الضوء فيها! هي ذاتها المدينة التي قذفت بعمر السومة إلى واجهة المشهد الرياضي في الوطن العربي وآسيا!

في ربيع سنة 1989، فتح السومة عينيه على مدينة كالحة تقبع على ضفاف الفرات، رغم كونها خزّان البلاد الزراعي والنفطي! من والد يعمل في محل بيع أدوات منزلية، وأم معلّمة صف، رغم كونها من مؤسسي كرة السّلة في نادي الفتوة، إلا أنها كانت تحاول إقصاء ابنها عن شغفه المهول بكرة القدم، وولعه المتّقد بناديه الأوّل الممثّل الأبرز لمدينته، والسبب طبعًا هي القناعة السائدة في البلاد المنهكة بأن "الفوتبول" والرياضة عمومًا لا تُطعِم خبزاً! لكنّ هوسه كان أقوى من كلّ شيء.

أخذه العشق المتصاعد بالمستطيلات الخضراء من كفّ يده نحو مقرّات النادي ليلعب في الفئات العمرية، لكنّه كان ضعيف البنية؛ ما أجبر مدرّبه محمد شريدة على إقصائه من مركز رأس الحربة الذي يحبّ، مع شبه قناعته بصعوبة تطورّ لاعبه. هكذا، أعاده ليلعب حارس مرمى، تلك كانت الشرارة الأولى التي استفّزت "العكيد"، وهو اللقب الذي أطلقه عليه معلقو الدوري السعودي.

لاحقًا، أثبت اليافع المندفع جدارته وعاد ليلعب في مركز المهاجم الصريح، وحقق مع النادي لقب الدوري السوري تحت عمر 18 سنة، وحصل على لقب هداف ذات البطولة بـ 29 هدفًا، ثم قاد فريق الرجال لناديه الأم نحو الصعود إلى دوري الأضواء بعد سنوات من التراجع والهبوط من الدرجة الممتازة، وانتقل بعدها إلى نادي القادسية الكويتي، وكان الوحيد من أبناء الفتوة الذي حظي بعقد احترافي لمدة ثلاث سنوات، هناك قرأ الجميع ملامح المجد التي تنتظر الرجل.

وعلى الفور، نصحه المعدّ البدني في النادي الكويتي بتطوير البنية العضلية لقدميه، وهو ما صنع تميزه فعليًا، من خلال قوّة التسديد والجري السريع لاقتناص الفرص في الهجمات المرتدة على وجه الخصوص. لينتقل بعدها بموسم 2014-2015 إلى الأهلي السعودي ويتذوّق معه بتباين مدهش طعم النجاح ومرارة الفشل! عندما قاده نحو التتويج بلقب الدوري الذي غاب عنه مدة 32 عامًا، وبعد هذا الإنجاز بسنوات، هبط للمرة الأولى بتاريخ النادي من الدرجة الممتازة، وما بينهما استفرد عمر بمجموعة كبيرة من الألقاب وحقق إنجازات فردية عديدة.

سجل السومة أكثر من 30 هدفًا خلال موسمه الأوّل مع "الراقي" واستمر تألقه في المواسم التالية ونال لقب هداف الدوري في موسمه الأول بـ 22 هدفاً، وأعاد الكرّة في الموسم التالي بـ 27 هدفاً ثم صار أول لاعب يحصد لقب أسرع هدّاف في العالم بتسجيل 50 هدفاً في 45 مباراة فقط.

شارك عمر مع منتخب سوريا ببطولات متعددة، لكنه في بعض الأحيان امتنع عن الانضمام للمنتخب لأسباب سياسية؛ حتى عاد سنة 2018، حينها كانت الجماهير في سوريا كانت ولا تزال تتعطّش لنصر معنوي كروي يعدل المزاج، وإلى بطل تعلّق له حرزًا يحميه، عساه أن يقود أحلامها المفقودة ولو على مستطيل أخضر، ويخفّف عن جميع السوريين ثقل الحياة المعتمة التي يعشقونها مثل قصاص مرهق، ولاحت بوادر ذلك الإنجاز في عام 2017 عندما كانت الحرب تفتك بالبلاد، مع وصول المنتخب السوري لأوّل مرة في تاريخه إلى الملحق المؤهّل إلى نهائيات كأس العالم التي أقيمت في روسيا 2018.

ويمكن القول بثقة بأن السومة كان أحد عرّابي ذلك الإنجاز بل كان مرشحًا بقوة ليكون دروغبا سوريا؛ إذ سبق للاعب ساحل العاج وأسطورة نادي تشيلسي الإنجليزي الشهير ديدييه دروغبا أن أطلق خطابًا بعد تأهل بلاده للمرة الأولى إلى كأس العالم سنة 2006، ذلك الخطاب اعتُبِر شرارة السلم الأهلي وانتهاء الحرب الأهلية هناك!

لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، وتبددت الفرصة، ليظهر المنتخب السوري هزيلًا في نهائيات كأس آسيا الأخيرة، من دون أن يحقق بعدها إلا النتائج الرديئة غالبًا، باستثناءات قليلة ربما لم يكن السومة موجودًا فيها، لعلّ أبرزها الفوز على تونس في كأس العرب بنتيجة 2-0.

أخيرًا، صدرت  قائمة المنتخب السوري مستبعدة السومة، ليقرر اللاعب الذي أظهر مستويات ممتازة في الدوري القطري رفقة ناديه العربي، الاعتزال دوليًا وسط غضبة شعبية عارمة، وأخبار غير مُثبَتة تفيد بوجود انقسامات في صفوف اللاعبين، نتيجة ارتباطات بعضهم التجارية بشخصيات كانت قائمة على المنتخب سابقًا، ولم يعد لها أي دور؛ لذا راحت تسعى جاهدة لإفشال المنتخب من خلال تأثيرها في هؤلاء اللاعبين.

على أي حال، قصّة عمر السومة مع فريق بلاده قد تكون بمنطق التشبيه الأدبي ما يحكيه الصحافي والموسيقي الديري فراس القاضي عن مدينته  عندما وصفها بأنها: «الحيرةُ التي تصيبُك عندما يشتمكَ ابنُك ذو الأعوام الثلاثة أو الأربعة.. هل عليك تأنيبه؟ أم استفزازه ليكررها مرة أخرى فتنقلب على ظهرك من الضحك؟ هي بالضبط تلك الابتسامة المختبئة خلف تكشيرة كاذبة... هي كألحان بليغ حمدي، ليست متقنةً كأعمال السنباطي، لكن فيها الكثير الكثير من الطرب والسلطنة، تغريكَ للبقاء فيها إلى الأبد، مع أننا كنا نشتمها كثيرًا».

أو لعلّه يجسّد الكلمات الديرية البسيطة التي تقول في قصيد بدوي: «حتى عجاجك فرش بقليبي وتمدد... من هو اللي شرب ميّتك يا دير وتبعّد» ترى من تابع عمر السومة مع منتخب بلاده ويمكن له أن يتخيله من دونه؟!

شارك: