الروابط الأسرية رسالة من قطر إلى كل العالم
كان حَرِيًا بي أن أخوض في الحديث وإبداء الرأي تجاه ما فعله منتخب المغرب في الشوط الأول من منافسات كأس العالم بقطر ، لكن زملائي في موقع (winwin) يقومون بالمتعين، وبالسرعة والدقة المهنية الرائدة لنقل الحدث كلمة وصورة وتحليلًا.
اليوم لن نخرج من دائرة الحديث عن كأس العالم قطر، وما حملته لنا من رسائل واضحة، حَلَّقت بنا نحن العرب في فضاءات التألق والفخر، عمقًا وجوهرًا، فمحور المنتخب المغربي لن يخرج من هذه الدائرة؛ فقد بعثت عناصر الأسود رسائل واضحة عن الروابط الأسرية ومدى التشبت بها، وسلوكياتها من خلال التواصي بالوفاء والإحساس بالواجب وحب الوطن؛ لأن ذلك كله هو الأسرة التي ننعم بدفئها، فليس هناك معنى للوطن دون أن يكون هناك حب؛ فالروابط الأسرية مرتبطة بقوة بالسلوكيات المهمة والأساسية، لإقامة المجتمعات على أسس أعلى من الاحترام المتبادل، والسلوكيات التي يُطلق عليها الفضائل المجتمعية.
اتضح هذا حينما خطف نجوم المنتخب المغربي الأضواء بحرصهم على الاحتفال مع أمهاتهم عقب التأهل إلى دور الـ16 من مونديال قطر، إثر الفوز على كندا 2-1.
ولحظة انطلاق صافرة نهاية المباراة، انفجرت أفراح اللاعبين والجماهير المغاربة على حد سواء، بمشاركة بعض أمهات اللاعبين، إذ امتزجت الدموع والحب والوفاء، فهذا سفيان بوفال، متوسط ميدان منتخب المغرب ونادي أنجيه الفرنسي، يصعد إلى المدرجات من أجل تقبيل رأس والدته بحرارة، وكأنه يقول لها (دعواتك استُجيبت).
كما ظهر نايف أكرد، مدافع منتخب المغرب، على الهواء برفقة والدته، حيث احتضنته بقوة، لكن أروع الصور كانت لأشرف حكيمي، نجم "أسود الأطلس" وباريس سان جيرمان، ليحتفل مع والدته بالفوز على بلجيكا.
وقامت والدة حكيمي التي كانت موجودة على المدرجات، بمساعدة نجم باريس سان جيرمان، على خلع قميص المغرب، قبل أن يتعانقا بطريقة عاطفية ومؤثرة للغاية، ويمتزج الحب والفرح والدموع، وبكل فخر واعتزاز، نشر حكيمي، الصور عبر حسابه الخاص في "تويتر" معلقًا بالقول: "أحبك أمي".
وقال حساب كأس العالم على "تويتر"، تعليقًا على الصور: "حماس وأمومة وبُنُوة وقبلة مغربية في حب الوطن بعد الانتصار التاريخي أمام بلجيكا". وأضاف: "أشرف حكيمي ووالدته كانا نجمي اليوم أمام عدسات المصورين".
حكيمي لم يتردد في التصريح، في مناسبات عديدة، بأن والده كان بائعا متجولًا، ووالدته عاملة نظافة منزلية. عانيا كثيرًا من أجله، وكانا يضحيان بجهدهما وبما يملكان من أجل تمكينه من أن يمارس كرة القدم، مدثرًا بدعوات أمه له بالنجاح في مسيرته.
وفي إحدى المناسبات التي تم تكريمه فيها كـ"أفضل لاعب في إفريقيا"، في مصر، ظهر حكيمي ووالدته على شاشة إحدى الفضائيات المصرية في لقاء قصير، حيث تحدث بالإسبانية عن علاقته بوالدته وارتباطهما ببعضهما، وأن والدته كانت دومًا سندًا له، وهي دائمًا بجواره منذ الصغر، معربًا عن حرصه في اصطحابها إلى أماكن لعبه وتكريمه حيث "أنها تعبت كثيرًا وتستحق بعض المرح" وتحتاج إلى التكريم والتتويج.
وإذا كانت والدة نجم المغرب، حكيم زياش، غائبة عن هذا المشهد الرائع، فإن زياش يستحضر أمه في كل حوار ولقاء صحفي، كما يقدر كثيرًا أن أخته هي أكبر مشجع له في عائلته، ويدين بالفضل لوالدته ولن تنسى لحظة وقوفه حين فاز بجائزة أفضل لاعب في الدوري الهولندي، وسط قاعة الحفل، وقال عنها: "هذه أمي، هي البطل الحقيقي، ولست أنا، هي كل شيء بالنسبة لي، ولولاها لما وقفت اليوم أمامكم، إذن حيوها أرجوكم لأنها من قادتني إلى هنا لأقف أمامكم".
لقد كان لهذه الصور التي تناقلها العالم، ومع اختلاف التعليقات حول الصورة من ''مَرْضي الوالدين'' إلى ''الربح من الوالدين'' لكن الاستنتاج أن الأمهات بالمهجر سفيرات الوطن، والحضور في مونديال قطر تتويج لمسيرة من الكفاح في تربية الأبناء على حب الوطن الأم، والتشبث بكل ما هو مغربي في الضراء قبل السراء، مع المحافظة على الإرث التربوي الإسلامي، بالرغم من قسوة الغربة في أوروبا، ومشاكلها وتلوناتها.
الروابط الأسرية عند لاعبي العرب والغرب
وإذا كان لاعبو الغرب يستقدمون زوجاتهم وأولادهم فقط، دون استحضار الأب والأم، وكأن مدة صلاحيتهم انتهت، ووضع من سهروا على تربيتهم (آوت)؛ لتتضح الأشياء بشكل جلي، والعلامة الفارقة بين قوة الروابط الأسرية والتربوية لدى العرب المسلمين والتفكك الأسري عند الغرب، وهذه رسالة أخرى على وجه السرعة من قطر إلى كل العالم، عن الروابط الأسرية عند العرب وتفككها في باقي العالم، وتغيَّر مفهوم كيان الأسرة إلى حدٍّ كبير؛ بحيث لم يعد من الدارج أن تعرف العائلة على أنها مجموعة أفراد تتكون من زوج وزوجة وآبائهم وأولادهم؛ فعلاقة الأبناء بآبائهم تنتهي مدة صلاحيتها عند بلوغهم سن 18 سنة، والأنكى من هذا أنهم يرمونهم في دور العجزة والمسنين، لكن عندنا نحن -العرب المسلمين- الروابط الأسرية لا حدود ولانهاية لها حتى نحملهم على أكتافنا إلى مثواهم الأخير.
الدعم العائلي أوكسيجين طبيعي
الدعم العائلي شيء مهم في حياة نجوم كرة القدم، ففي أحيان كثيرة يكون هذا الدعم هو الوقود -الأوكسجين الطبيعي- لدفع اللاعبين لتقديم أفضل ما لديهم، وللدعم العائلي أشكال عدة من خلال الدفاع عن اللاعب في قضية محددة وحافز للبذل والعطاء.
الإنسان الذي يكون "مرتاح البال" يقوم بعمل أفضل، مقارنة بمن يمر بحالة تذمر عميقة أو يكون في محيط لا يشعر فيه بالارتياح، عندما يعرف المرء أن اللاعب يحب أن يكون في وسط عائلته وأن ذلك يعطيه القوة، لن يكون مفيدًا أو صحيحًا جمع كل اللاعبين بالفندق في ليلة ما قبل المباراة، لأن الطاقة البشرية في نهاية الأمر هي التي يتم الاعتماد عليها أثناء اللعب.
ولهذا السبب، يجب بذل كل جهد من أجل خلق محيط ملائم للرياضي يشعر فيه بالارتياح ويمكّنه من بذل أفضل مجهود لديه، وهذا ما فطنت له أندية كبيرة وبدأت تستعمله كسلاح معنوي، ودعم ذهني طبيعي، إنه شلال من الجرعات المعززة لنفسية اللاعبين، هي حكاية أكبر من كرة القدم، هم سفراء وسفيرات لهم مساهمة كبيرة في إنتاج هذا الجيل التاريخي.
هي فرحة، هي نشوة، هم وهن طاقم روحي يشتغل داخل صفوف المنتخب الوطني دون مقابل؛ لأنه مزيج من الحب والحنان والوطنية، إنها العروبة إنه ديننا الذي يربي فينا وسائل تنشئة طبيعية تستشري في دمائنا.
فشكرًا لك يا قطر على محطتك الحاسمة الخالدة والتي كتبها التاريخ بمداد من الفخر؛ إنها إحدى الفتوحات العربية الإسلامية الواجب الاعتزاز بها، فرسائلك وصلت يا قطر "عاصمة العالم" ليس لثلاثين يومًا من منافسات كأس العالم فقط، بل ستظل إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وليضعوا أيديهم على قلوبهم من وضعوها على أفواهمهم.