الاحتفال بالأمهات على المستطيل الأخضر رسائل مونديالية بالغة
هل يعلم اللّاعبون المغاربة ما الذي يفعلونه عقبَ كلّ مباراة؟ هم لا يصعدون إلى المدرّجات ساعين إلى الأمّهات؛ يقبّلون أيديهنّ ورؤوسهنّ ويحتفلونَ بهنّ ومعهنّ أمام الشّاشات التي تنقل الحدث إلى الكوكب كلّه فحسب؛ بل إنّهم يصوغون رسائلَ مغرقةٍ في البلاغة والعبير المنتشر الذي يصل فوحه أرجاء المعمورة من حيث لا يدرون.
إنّها مشاهد بالغة العفويّة ورائعة التّلقائيّة وغير مرتّبة ولا مجهّزة مسبقًا وليست ضمن بروتوكولات كأس العالم المعتادة، ولعلّ أبلغ ما يصلُ عقول الخلق وقلوبهم ما جاء عفوَ الخاطر نابعًا من قلبٍ صادق ونفسٍ راقية وفطرةٍ نقيّة.
لقد اعتاد العالم في بطولات كأس العالم المتعاقبة على الترّكيز على صور حبيبات اللّاعبين أو زوجاتهم وهنّ يتابعن بقلق أداء رجالهنّ؛ وكانت صور ما بعد الفوز تحفل بالعناق بينهم للدلالة على الحبّ والدّعم والتضامن الذي روح التّنافس الكرويّ على المشهد العاطفيّ؛ ولم يكن للأمّهات من هذا العناق أو الحفلات أو مشاهد الفرحة نصيب حقيقيّ وحضورٌ واسعٌ كالذي رسّخه وسطّره لاعبو الفريق المغربيّ.
صحيحٌ أنّ هناك العديد من الأمهات قد كنّ مع أبنائهنّ في المونديال مثل "سيليا ماريا كوتشيتيني" والدة اللاعب الأرجنتيني "ليونيل ميسي" التي كانت تتابع ابنها بشغف في المدرّجات، و"سيندي" والدة حارس مرمى منتخب الولايات المتحدة "مات تورنر" التي احتضنته بشدّة أمام الشّاشات عقب خسارة فريقه أمام هولندا في دور ال 16.
وكذلك ظهرت صور اللاعب الكرواتي "لوفرو ماجر" وهو يحتفل مع والدته بعد التأهل إلى نصف نهائي المونديال على حساب البرازيل؛ لكن كلّ هذا لا ينفي أنّ احتفالات المغاربة مع أمهاتهم كان لها حضور مختلف تمامًا من حيث الكثافة والجماعيّة فهي كانت حالة قد اصطبغ بها الفريق بأغلب أفراده عقب كلّ مباراة من مبارياته ممّا شكّل حضورًا مختلفًا ولافتًا للمتابعين في وسائل الاعلام المختلفة والنّاشطين على وسائل التّواصل الاجتماعيّ في مختلف أنحاء العالم وأسهم في تقديم رسائل من نوعٍ آخر.
لسنا مع المبالغة في تحميل المشاهد ما لا تحتمل، ولسنا مع التكلّف في قراءة أيّة صورة وجعلِها الفتح المبين، ولسنا مع إضفاء تفسيراتٍ مبالغ فيها عن أثرِ الصّور مع الأمّهات، ولكنّنا بالمقابل لسنا مع محاولات التّسخيف من هذه الصّور ونحن نرى أنّها حضرت بقوّة في مختلف وسائل الإعلام المرئيّ وتحدّث عنها المعلّقون والكُتّاب في الصّحف النّاطقة بمختلف اللغات واحتفى بها عامّة الناس في العوالم الافتراضيّة بكثرة.
إنها صور ذات أثر ولئن كان أثرها لا يتجاوز أن يكون كأثر رائحة الزهرة الفوّاحة في الدّلالة على وجود الزهرة ولفت الأنظار إلى جمال الوردة لكفاها ذلك، فليسَ المطلوب من هذه الصّور أن تكون سببًا في دخول النّاس في دين الله أفواجًا، بل يكفيها أنّها أرسلت رائحةً طيّبة الشّذا حول قِيَمٍ وأخلاق وأفكار يحملها هؤلاء اللاعبون المسلمون.
إنّ هذا الحضور الاحتفاليّ اللّطيف للأمّهات هو لفتُ نظرٍ إلى أنّ البيئة المسلمة التي ما تزال تحفلُ بالأمّهات وتعدّهنّ الرّمزَ الأكبر والمحور المركزيّ في منظومة الأسرة.
نعم لقد لفتت هذه الصّور الأنظار مجدّدًا إلى منظومة الأسرة التي يُراد لكيانها أن يتمّ تقويضه وهدّ أركانه، وتبذل منظمات ودول لذلك جهودًا كبيرة وتقدّم في سبيل تحقيقه أموالًا وخطابًا مسمومًا يرادُ له أن يسري في الكيان المسلم.
إنّ هذه الصّور الاحتفاليّة تلفت الكثير من المشجعين في الغرب إلى قِيمٍ لم تعد حاضرةً بقوّة في واقعهم الاجتماعيّ، قيم الأمومة والعلاقة بها، والبرّ والوفاء، وقيم الأسرة وكيانها وتماسكه، وإنّ مجرّد لفت النّظر إلى هذا هو من الرّسائل المهمّة، وإنّ إعادة الاعتبار لكيان الأسرة في أيّة بقعة في العالم سيعود بالخير على البشريّة كلّها.
ما أجملَ الأمّهات وهنّ يرسلنَ مع عناقهنّ لأبنائهنّ اللاعبين ويحتفلن معهم رسائل في اتّجاهات مختلفة قد تكون أبلغ بكثير ممّا تخطّه المقالات والكتابات؛ ما أبلغَ الأمّهات!