ما العلاقة اللُّغويةُ بين الرِّياضة والتَّرويض؟

تحديثات مباشرة
Off
تاريخ النشر:
2023-11-22 14:29
الفروسية من الرياضات التي يبرز فيها دور الفارس في ترويض الخيل (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

حين نسمع كلمة التَّرويض فإنَّ أوَّلَ ما يتبادر إلى أذهاننا هو الحديث عن ترويض الخيل وقصص الفروسيّة والبطولة، وحكايات شجاعة الفرسان والخَيّالة وقدراتهم العالية وكفاءاتهم في ترويض الخيل وتذليلها للرّكوب والانقياد وتحقيق الغايات المختلفة عبر العصور، ففي الماضي كانت الغاية من ترويض الخيل حربيّة قتاليّة في المقام الأول، فالفارس يُعنى بتطويع فَرَسِه وتمرينها للانحناء مع حركته وتحقيق الانسجام والمواءمة بين كَرِّها وفرِّها وإقباله وإدباره في ساحات المعارك؛ لذا كان ينبغي للفارس المغوار أن يختار من الخَيل ما يتواءم معه حتى يشعر وهو يعتلي صهوة الفَرَس وكأنهما جسد واحدٌ، فيُطاوعه حِصانه ويتثنى ويلتوي بما يوفّر لصاحبه التّحكّم بسيفه أو رمحه وما سوى ذلك من أسلحة وأدوات حربية يستعملها الفرسان وهم على صهوات الجِياد.

لا بدَّ لنا في البداية من أن نُحرِّر مفهوم التَّرويض؛ فهو عند أول مِفصَلٍ لغوي معاصر يعني كلّ الطرق والوسائل المستعملة لإخضاع الحيوانات وتطويعها وتجهيزها للقيام بعمل محدَّد بسلاسة وانقياد تامّ، كتلك الحيوانات المفترسة التي نراها في عروض السيرك والعروض البهلوانية؛ إذ يُروِّضون الوحوش -إذا جاز التعبير- ويَسُوسُونها، وكذلك الأسود المفترسة -على سبيل المثال- للقيام بحركات معينة تمتع المشاهدين وتدهشهم في آن واحد، وكذلك الأمر فيما يخصّ النّمور والفيلة وغيرها من أنواع الحيوانات المفترسة وغير المفترسة على حدٍّ سواء.

غير أن كلمة التّرويض في أساسها اللُّغوي تلتقي مع الجذر اللّغوي للكلمة المحبوبة والأثيرة عن كثير من الجماهير الشابة وغير الشابّة أيضاً؛ ألا وهي (الرياضة)، لعلكم تتساءلون: وكيف ذلك؟

إنَّ كلمة التَّرويض مصدرٌ للفعل رَوَّض، وفي علم النفسِ يعني ضبط السلوك البشري وفقاً لقواعد الإنسانية عامّة وتهذيبها عن طريق ثنائية الثواب والعقاب، تماماً كما يبدو الأمر في مجال التربية والأطفال، فترويض الأطفال يعني تربيتهم على الخُلق والمُثُل العليا بما يتناسب مع العقيدة بالدرجة الأولى، وما ينسجم مع المبادئ الإنسانية والقواعد المجتمعية التي تحكم البيئة المحيطة بالطفل أو بالإنسان عامّة، ومن هنا جاءت تسمية رِياض الأطفال ومفردها روضة، ليشمل الاسم معنى التربية والتدريب على الحياة، واستئناساً بالمكان بوصفه روضة مخضرّة وحديقة غناء تتراقص فيها أرواح الأطفال وتبعث فيها البهجة والسعادة.

وجاء في معجم اللّغة أنّ قولنا: (روَّض المكانُ) يعني أن المكان المقصود قد كثُرت خضرتُه وزاد ماؤه، وإذا ما استعملنا الفعل (روّض) للمطر والغيث فإننا نقصد به أن الغيث جعل المكان أخضر والبساتين غَنّاء والثّمار مشرئبّة يانعة، ونحن نقول عن شخص ما إنّه روَّض، فإننا نعني بذلك أنه لَزِمَ الإقامة في الرِّياض وأَلِفَها وأكثر من الإقامة فيها.

وجاء في المعنى نفسه تسهيل الفعل، كأن نقول (راضَ) بدلاً من (رَوَّض)، فالمصدر من الفعل (راضَ يَرُوض) هو (رَوْضًا ورِياضًا ورِياضةً)، والفاعل منه رائض، والمفعول مَرُوض؛ وهنا يلتقي الترويض بالرّياضة، فعندما يُقال: يَرُوضُ الفَرَس فالمقصود أنه يُطَوِّعُهُ وَيُدرِّبه ويُعَلِّمُهُ السَّيْرَ وَالسِّبَاقَ، وعندما نقول عن امرئ ما إنه راضَ أو يَروض نفسه بِالتَّقْوَى فنقصد أنه طَوَّعَهَا ورَبَّاها وزَكَّاها بجميل الخلق والتَّقوى ومخافة الخالق في حياته وسلوكه ومعاملاته مع الناس جميعاً، ويقال أيضاً: (رَاضَ الدُّرَّ ) بمعنى ثَقَبَهُ ليجعل في عقد أو سلسلة.

ويُستعمل اللّفظ نفسه في سياق الشعر ونَظم القصائد، فنقول: (رَاضَ القَوَافِيَ الصَّعْبَةَ)؛ أي عَمَدَ إليها واستطاع رُكوبها وتطويعها لتصبح مِطواعة لقصيده وشعره، لا سيّما تلك القوافي التي تنتهي بحرف القاف مثلاً، إذ يُعرف حرف القاف أنه من الحروف الصعبة في القوافي، وكذلك حرف الواو أو الثاء أو الجيم على سبيل المثال، وتزداد القوافي صعوبة إذا ما ألزم الشاعر نفسه بتسكين الحرف الأخير من القافية.    

ومنه قولنا: (راضَ بَدَنه رياضة)؛ أي دَرَّبه ومَرَّنه حتى انقاد له، فصار مِطواعاً في تأدية الحركات الرياضية التي يريدها، إذ نعبِّر عن تمرّن الرجل وتدرّبه بقولنا: (تَرَوَّضَ الرَّجُلُ)، ونقول: (تَرَوَّضَ الفَارِسُ عَلىَ الفَرس) أي تَدَرَّبَ عَلَى تَذْلِيلِهَا وتَطوِيعها وَتَسْهيِلِ مِرَاسِهَا وانقيادها.

ويُسحب الفعل (راوَض) على المعنى المجازيّ للرياضة، كأن نقول مثلاً: (راوَضَهُ على الأمر) أي أنه حاول مُداراته ومخاتلته ومراوغته حتى يُدْخِلَهُ ويُشركه فيه.

فالرِّياضة والتَّرويض ينطلقان من معنى واحد، وجذرين لغويّين متماثلين (راض) و(روَّض)، وإن صار كلُّ لفظ منهما في عصرنا الراهن يدلّ على مفهوم محدَّد، غير أنهما يلتقيان في فكرة التطويع والتذليل والتسهيل.

شارك: