مارتينيز ومواني.. من التصدي الرهيب إلى الاحتفال المهيب!

تحديثات مباشرة
Off
تاريخ النشر:
2023-12-28 19:24
إيميليانو مارتينيز يتصدى لتسديدة كولو مواني في نهائي كأس العالم قطر 2022 (X/RoyNemer)
محمد العولقي
كاتب رأي
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

هناك مباريات تحفل بالمتعة والإثارة والمستوى الفني المرتفع لا تغادر الذاكرة، تبقى وشمًا محفورًا لا تملّ ولا تكلّ من تكرار مشاهدتها بمناسبة ومن دون مناسبة، وهناك مباريات نشاهدها، تصبح من الماضي ولا تترك أثرًا في ذاكرتنا الكروية.

هناك مباريات لا تنتهي بمجرد انتهائها، بل تظلّ نتائجها وتوابعها حاضرة، تثير الجدل والضجيج في كل زمان ومكان، ومن بين تلك المباريات التي لا تُنسَى أحداثها المرعبة، مباراة نهائي مونديال قطر بين الأرجنتين وفرنسا.

ولعلّ منسوب الإثارة الهتشكوكية يبلغ سيله الزبى، عندما ترتبط تلك المباراة الخالدة بأحداث ومواقف عاصفة، كادت نتيجتها النهائية تقلب الموازين وتنتقل في غمضة عين من النقيض إلى النقيض.

لا تحتاج تلك المباراة الماراثونية الدراماتيكية، التي قدّمها استاد لوسيل (التحفة) للعالم على أنها أحلى وأجمل مباراة نهائية في تاريخ بطولات كأس العالم، إلى مناسبة للحديث عن تقلباتها ورياحها العاتية الهوجاء، التي جعلتنا نعيش أشغالًا شاقة من متعة الترقب، انتهت بعد ذلك بدراما ركلات الترجيح.

تصدي مارتينيز.. الأهم في تاريخ كرة القدم وفقًا لتصنيفات عديدة

ومع أنّ هذه المباراة الصاخبة المليئة بالكثير من المشاهد المرعبة، التي ننصح بعدم تكرار مشاهدتها لو كانت (معلبة) من طرف ذوي القلوب الضعيفة، ما زالت تثير الكثير من ردود الفعل سواء في فرنسا أو الأرجنتين، إلا أنها بالنسبة إلى المهاجم الفرنسي راندال كولو مواني ستظلّ كابوسًا يقضّ مضجعه دون غيره.

تبنّى باريس سان جيرمان الفرنسي خطة نفسية شاملة لإعادة بناء وتأهيل المهاجم كولو مواني من جديد، في محاولة من النادي لمسح غبار لقطة مرعبة لا تريد أن تبارح ذاكرة هذا المهاجم المنحوس، لكن تلك الخطة الاستشفائية التي يشرف عليها طبيب نفساني متخصص، لم تردم الهوّة التي أوقع المهاجم الفرنسي نفسه فيها.

في الدقيقة 120، وعلى بُعد ثوانٍ من إطلاق الحكم البولندي مارتشينياك صافرة نهاية المباراة النهائية بشوطيها الإضافيين، وبينما كانت النتيجة تشير إلى التعادل بين المنتخبين الأرجنتيني والفرنسي بثلاثة أهداف لكلٍّ منهما، وقعت الواقعة. 

تلقى المهاجم كولو مواني تمريرة (كورباجية) من المدافع إبراهيم كوناتي، أساء مدافع الأرجنتين أوتاميندي تقديرها، فوجد مواني نفسه وجهًا لوجه مع الحارس الأرجنتيني العملاق إيميليانو مارتينيز.

كانت انطلاقة مواني من العمق مثالية للغاية، تزامنت مع مسار الكرة، لوهلة بدا وكأنّ قلوب ثمانين ألف متفرج في مدرجات لوسيل قد توقفت عن الخفقان، كان المشهد الذي يحبس الأنفاس مهيبًا، يشير إلى أنّ هذه الكرة ستكفن كل أحلام ليونيل ميسي وستعيده من جديد إلى بيونس آيرس بخفي حنين.

انطلق مواني مسيطرًا على سرعة الكرة، بينما غادر الحارس الأرجنتيني مرماه بوضع مائل، وفتح ذراعيه كنسر يستعد للانقضاض على أرنب برّي، كانت قدماه تتحدبان في محاولة لإرغام الفرنسي على التسديد في المكان الضيق الخطأ.

حتى تلك اللحظة، كان الجو بالنسبة إلى الفرنسي مواني بديعًا للغاية، والخيارات متاحة أمامه، عن يساره كان السهم كيليان مبابي يسبق قليلًا المدافعين روميرو ومونتييل، ومن الوضع المائل كان أمام مواني خياران أحلاهما رفع الكرة بخفة من فوق الحارس لتدخل المرمى الفارغ، أو التسديد بدقة نحو الزاوية اليمنى الفارغة، لكن مواني في لحظة جنون اختار الحل المر، صوّب الكرة بقوة نحو الزاوية الضيقة، فتدخلت ساق الحارس الأرجنتيني لتنقذ حلم قائده ميسي من الضياع، وبلاده من كارثة حقيقية مروّعة، أين منها كارثة ما حدث لمنتخب المجر أمام منتخب ألمانيا الغربية في نهائي مونديال سويسرا عام 1954؟

لا يعيش كولو مواني أيامًا سعيدة مع باريس سان جيرمان، ولم يعد يتميز بالانتهازية الحقيقية التي كان عليها قبل مونديال قطر، لقد بات مهاجمًا تائهًا مضطربًا وقلقًا وشاردًا، والسبب أنّ تلك اللقطة المرعبة -التي ربما تكون أهم وأخطر لقطة في كل تاريخ بطولات كأس العالم- تهاجمه  ليلًا ونهارًا، ولا يجد بدًّا من اجترارها أمام طبيبه النفسي دون جدوى.

يغمض كولو مواني عينيه وهو يستحضر تلك اللحظة الرهيبة التي أوشك أن يكون فيها بطلًا وقاتلًا أيضًا، ويقول بألم وهو يفتّش عن تلك اللقطة في جوّاله: "عندما تشاهد الفرصة من جديد ومن دون توتر، ترى الخيارات الأخرى، لكن بعد فوات الأوان".

يعضّ مواني شفته السفلى، ثم يلتقط نفسًا عميقًا وهو يستطرد بألم ممزوج بخيبة أمل: "ستكون هذه الفرصة غصّة في حلقي مدى الحياة".

يطلق مواني زفرة أسى أخرى من أعمق أعماقه، وهو يضيف مستعيدًا تلك الفرصة الضائعة التي يساوي وزنها كأس العالم: "كان بإمكاني أن أتصرف بطريقة أخرى لو تأنّيت وضبطت ردة فعلي. كان كيليان مبابي يقف في مكان جيد ولكنني لم أره، عندما استلمت الكرة كان تركيزي على المرمى".

يهز مواني رأسه بعنف، و كأنه يطرد كابوسًا جاثمًا على صدره، ويؤكد وهو يحلّل تلك اللقطة: "ما زلت أشاهد تلك الهجمة كل ثانية من عمري، أنا أحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب، قلت في عقلي: لا بد أن أنهيها لأكون بطلًا، لكن الحارس ديبو مارتينيز تصدّى لها بشكل رائع".

عام كامل مرّ على تلك المباراة النهائية الحُبلى بالتقلبات، المثيرة في معطياتها، وعندما تستعيد العقول تفاصيلها، لا نتوقف كثيرًا عند براعة كيليان مبابي وثلاثيته التاريخية، ولا عند عناد ليونيل ميسي وتألقه، لأنّ هذه المباراة اختزلت حبكتها الدرامية في لقطة لبضع ثوانٍ، جعلت من الحارس مارتينيز بطلًا قوميًا في أمريكا الجنوبية، من منطلق أنه كان السبب المباشر في تحويل بوصلة الكأس، من ضفاف بحر المانش، إلى رحاب شعب أرجنتيني مجنون يعيش على ضفاف بحر الكاريبي.

شارك: