لِلصَّيْدِ مَغْزَى جَدٍّ وَلَيْسَ سُدىً

تحديثات مباشرة
Off
تاريخ النشر:
2023-05-21 16:08
صورة أرشيفية - رياضة الصيد (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

تحدَّثنا في المقال الماضي عن الشَّاعر خليل مطران المعروف بأنه (شاعر القطرين)، وقيل هو (شاعر الأقطار العربية)؛ وتحدثنا تحديداً عن قصيدته التي نَظَمَها حول رياضة الصَّيد، ووصلنا إلى تحفيزه لِشُبّان مصر، وحضّهم على اتّخاذ مَلِكهم الفاروق نَموذجاً ومِثالاً يُقتَدَى به، فقد كان موصوفاً بالجرأة والعَزم والجسارة والشجاعة، ونكمل اليوم جولتنا الشّعريّة الرياضيّة في رحاب القصيدة نفسها، فقد قال:

فُتْيَانَ مِصْرَ اقْتَدُوا بِسَيِّدِكُمْ
ذِي البَأْسِ فِي حِينِهِ وَذِي الكَرمِ
فِي عِزَّةِ المُلْكِ غَيرَ أَنَّ بِهِ
لِكُلِّ حَالٍ نَشَاطِ مُعْتَزِمِ

يُخاطب الشاعرُ فئةَ الفتيان والشَّباب، وبعد حَثّهم على الاقتداء بملكهم كرماً وإقداماً، يؤكّد لهم أن التَّوازن في الحياة أمرٌ مطلوب، وكما يقال: "لكلِّ مَقامٍ مَقال"، فالشَّاعر خليل مطران في هذه الأبيات الشِّعريّة يمدح الملك وفي الوقت نفسه يخاطب الشُّبّان، ويبرهن لهم حين يقول (لكل حال نشاط معتّزم) أنَّ المرء قادرٌ على أن يوزِّع نفسه بين مَهامِّه وواجباته من جهة، وهواياته والعناية بصحَّته البدنية والنفسية من جهة أخرى.

ويتابع مُضِيّه في الخطاب والحضِّ على فعل الخيرات، مُدرِكاً أهمّيّةَ وُجودِ النَّموذجِ الأعلى والقُدوة الحسنة في حياة الفتيان قبل أن تتقاذفهم الحياةُ يُمنة ويُسرة فيجدوا أنفسهم في مَهَبِّ الريح بدون وجهة أو هدف واضح وحقيقي.

ويكمل مَدحَه للمَلِكِ الفاروق؛ المِثالِ الذي يدعو إلى الاقتداء به، واصفاً صَحوَه ونهارَه الممتلئ بفعل الصَّالحات من الأعمال وتوجيه شؤون المُلكِ والرّعيّة، ورفع الظّلم عن الخَلقِ والعِباد، ثم يلفت مطران نظرَ الشبّان إلى أنّهم إذا لم يقتدوا بِمَلكِهم فسيبقون أَسرَى للظُّلمِ والفساد؛ لذا عليهم أن يتمسّكوا بالأخلاق الفاضلة بقوّة وعِناد؛ إذ يقول:

تَقْتَسِمُ الصَّالِحَاتُ يَقْظَتُهُ
لِلْخَيْرِ وَالرَّأْيِ غَيْرَ مُقْتَسِمِ
فَارُوقُ أَهْدَى لَكُمُ
فَلا تَظَلُّوا عَاشِينَ فِي الظُّلْمِ
تَشَدَّدُوا لا تَرَهَّلُوا وَخُذُوا
بِمَا تُحِب العُلَى مِنَ الشِّيمِ

ثمّ يصل إلى حديث الصَّيدِ، ويُشِيد بمُمارَسته، فهو نشاطٌ بَدَنيٌّ رِياضيٌّ ذو هدفٍ ومعنى، ويؤكّد فكرته باستعمال الطِّباق والتَّضَادّ في اللّغة؛ إذ لا يكتفي بقوله: (لِلصَّيْدِ مَغْزَى جَدٍّ)، بل يُؤكِّد فِكرتَه باستعمال الضِّدِّ فيقول: (وليس سُدى)؛ يريد بذلك أن يدحض فكرة كثيرٍ من العامّة حول رياضة الصَّيد؛ إذ يَعدُّونَها بعيدةً عن الحياة العصرية، ولا طائل ولا جدوى منها، فالإنسان لم يعد بحاجة للصَّيد كي يعيش أو يحمي نفسه، ومُنطَلَق هؤلاء فيما يذهبون إليه من رأي أنّهم لا يَرَونَ أنَّ الصَّيدَ من الرِّياضات الفعليّة، لكنّ الشاعر يُؤكِّد فكرتَه مُستنِدَاً إلى أهمية ممارسة الصَّيد منذ قديم الزّمان، وما في هذه الرِّياضة من تَعزيز لِكِبرياءِ المَرءِ وقدرتِه على التَّحكّم بنفسه وتهدئتها وتركيزها على هدفها وإقدامها على الفعل في اللَّحظة المناسبة، فضياع الفُرصة المُواتِية يعني هَدرَ الوقت وضياع الهدف؛ فلننظر إلى قوله:

لِلصَّيْدِ مَغْزَى جَدٍّ وَلَيْسَ سُدىً
مَا فِيهِ مَعْنَى الإِبَاءِ وَالشَّمَمِ
أَحَلَّهُ اللهُ فِي مَوَاسِمِهِ
وَلَيْسَ كُلُّ الشُّهُورِ بِالحُرُمِ

وعلى الرغم من أنَّ الشَّاعر خليل مطران كان مسيحياً، إلّا أنّه يعيش في وسط إسلامي واسع في البلاد العربية، لذلك يعرف جيداً أنّ للصَّيد في العقيدة والثّقافة الإسلامية شروطاً ينبغي الأخذُ بها، فالصَّيد مَنهِيٌّ عنه في حالاتٍ وأوقات مُعيّنة لدى المسلمين؛ فَصَيدُ الطُّيور وغيرها مُباحٌ دائماً إلا إذا كان الشّخص مُحرماً بِحَجٍّ أو عُمرة، أو إذا كان الصَّيد في الحَرَم؛ استناداً إلى قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [المائدة:96]. أما الأشهر الحرم فهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومُحرَّم، ورجب، وهي أشهر مُعظَّمة منذ أيام سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السّلام، واستمر هذا التعظيم لدى العرب إلى مجيء الإسلام وإقرار القرآن الكريم به، إذ قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة:36]، ومِمَّا يُميِّزُ الأشهرَ الحُرم من غيرها من الشُّهور أنَّ الطاعة فيها أعظمُ ثواباً، والمعصية فيها أشدُّ عقاباً. ولكن الصَّيد المُباح فيها غير مُحرَّمٍ. 

ويُنهي الشاعر حديثَه وحثَّه على ممارسة الصَّيدِ وإتقان الرّماية بسَردِ فوائدها على الفرد والمجتمع، فالسبيل إلى النجاة من قَيدِ الظلم والانسياق للبُغاة هو إحكامُ الرِّماية بِنَوعَيها الفكريّ والجسديّ، وإلّا فإنّ العاقبة وَخِيمةٌ على المَرءِ ومَن حَوله؛ فلننظر إلى هذه المعاني في خِتامِ القصيدة، فقد قال الشاعر:

رَخَاوَةُ العَيْشِ لَيْسَ يَعْقَبُهَا
فِي الجِسْمِ غَيْرُ الفُتورِ وَالسَّقَمِ
إِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْكَمَ الرِّمَايَةِ لا
تَنْجُ طَوِيلاً مِنْ بَغْيِ مُحْتَكِمِ
لَقَدْ بَدَا مَا تَخَافُ صَوْلَتَهُ
فَارْمِ وَإِلاَّ رُمِيتَ مِنْ أُمَمِ

شارك: