لكي تغلبَ عدوّك لا بُدّ أن تكون عَدَّاءً!

تحديثات مباشرة
Off
تاريخ النشر:
2023-04-30 16:13
-
آخر تعديل:
2023-04-30 16:15
صورة أرشيفية لرياضة سرعة الجري (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن الشاعر الجاهلي "تأبط شرًّا"، الذي يُعدّ من الشعراء الصعاليك الذين ناضلوا بالفعل والقول في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين طبقات المجتمع الجاهلي آنذاك، وانتهى بنا المطافُ إلى قراءة قصيدته التي تحدث فيها عن سباقه في العيد وفراره راكضًا من قبيلة (بجيلة)؛ إذ سرد علينا حكاية فراره وكيفية تعامله مع الصّداقة النفعيّة والصّديق الأنانيّ، فقد كانت حادثة هروبه تلك من أهمّ حوادث حياته، وقد دخل بسببها –مضطرًّا- في سباق جرى بينه وبين أفراد القبيلة، فلنقرأ معًا أبياته الشعرية الآتية، وهو ينقل لنا وقائع السباق الاضطراريّ الذي دَخله راغمًا:

لَيلَةَ صاحوا وَأَغرَوا بي سِراعَهُمُ
بِالعَيكَتَينِ لَدى مَعدى اِبنِ بَرّاقِ

كَأَنَّما حَثحَثوا حُصًّا قَوادِمُهُ
أَو أُمَّ خِشفٍ بِذي شَثٍّ وَطُبّاقِ

في هذه الأبيات يُبيّن تأبّط شرًّا تفاصيل هروبه من قبيلة بجيلة التي كان أسيرًا لديها؛ فاستنفر الحصارُ الذي كان يعيشه طاقاتِه الكامنة في خبايا نفسه الطامحة، وصوَّر لنا جسده الذي ما زادته الأيام إلا صلابة، فلم يقهره الجوع الطويل، ولم يجعله شظفُ العيش في الأسرِ إنسانًا ضعيفًا مقهور الإرادة، بل فجّر قدراته الفريدة، حتى صوّر نفسه عَدَّاءً لا يُجارَى؛ إذ قال: (لقد حثحثوا)؛ أي حركوا واستحثُّوا ما فيَّ من قوّة عجيبة، وشبّه نفسه بالظّليم وهو ذكر النَّعام، ووصف حال الظَّليم وقَوادمه؛ أي ما يلي الرأس من ريش الجناح، فقوله: (حُصّاً قَوادِمُهُ) يشير به إلى ما تناثر من ريشه وتكسر. 

ثم يشير إلى الخشف وهو ولد الظبية الذي يأكل الشث والطباق؛ وهما نبتان طيّبا المرعى، يشدّان لحم الظبي إذا رعاهما، فيقول: كأنما حين استحثّوني حرّكوا بلحاقهم بي ظليمًا أو ظبيًا، وقد اختار هذين التشبيهين لأنهما ممّا يُضرب المثلُ بهما في شدّة العَدْوِ والسرعة، فالظليم المتناثر الريش يركض بسرعة وسلاسة، لكن الشاعر حين أحسّ أن تلك السرعة تقصر عما تريد نفسه الطموح تصويره وإيصاله، استعان بصورة الظبي الذي استجمع كوامن القوة والنشاط مما تغذى به من مرعى وفير.

ويكملُ تأبط شرًّا واصفًا جَريَه وركضَه، مفتخرًا بسرعته قائلًا:

لا شَيءَ أَسرَعُ مِنّي لَيسَ ذا عُذَرٍ
وَذا جَناحٍ بِجَنبِ الرَيدِ خَفّاقِ

العذر هو ما أقبل من شعر الناصية على وجه الفرس، أما الريد فهو الشمراخ الأعلى من الجبل؛ ويريد تأبط شرًّا هنا أن يخبرنا أنّه لا يفوقه سرعةً في العَدو إلا الطيور الجارحة التي تأوي إلى أعالي الجبال الشاهقة، ولا يسبقه ويتقدّم عليه سوى الخيل ذو العذرة. وقد حقَّق بعَدوه وسرعته الفائقة نجاته وأبقى على روحه؛ إذ يقول:

حَتّى نَجَوتُ وَلَمّا يَنزِعوا سَلَبي
بِوالِهٍ مِن قَبيضِ الشَدِّ غَيداقِ

حرّر الجري السريع إرادةَ الشاعر، وحرر مبادرته ليؤول إلى كل ما يستجمع الجواد الأصيل من خصال، وإلى كل ما يمثله النّسر المحلق بين الجبال وعلى قممها من استعلاء وعزّةٍ وعنفوان، فقد استطاع الفرار بدون أن ينالوا منه أو يسلبوه شيئاً، وقد بدا في هربه كالذاهل الذي ذهب عقله من شدة السرعة والجدّ في الهرب.

وهكذا كان انتصار الشاعر على فرسان قبيلة بجيلة بالعَدوِ، على الرغم مما يملكونه من تفوق في العدد والعدّة، وكان أمر الفكاك من الأسر سهلًا لدى عدّاء فاق الناس عَدوًا وسرعةً، واستطاع بذلك الحفاظ على ما لديه من سَلب! 

وبذلك يكون تأبط شرًّا قد صوّر لنا نفسه في سباق شرسٍ استطاع الانتصار فيه على منافسيه، وغلبهم بركضه وعَدوه وسرعته، بل ادّعى في شعره أنه يستطيع التغلب على كلّ عَدّاءٍ سبّاقٍ في البَراري. 

وبعد شَدِّ الأعصاب وقدرة تأبط شرًّا على الفرار، ينقلنا في قصيدته نفسها إلى مشهد آخر يتحدّث فيه عن السباق أيضًا، لكن هذه المرة من وجهة نظر مختلفة؛ إذ يحدثنا عن الفضائل المعنويّة والأخلاق الرّفيعة والخصائل المحمودة، ويخبرنا أنه ليس ممّن يرتفع عويلُهم على سفاسف الأمور إذا ما حزنوا، فعويله وبكاؤه لا يرتفع إلّا على فقدان الصّاحب السبّاق في الفضائل، السَّاعي إلى المعالي، الوفيّ لعشيرته ورفاقه، الجسور الشجاع المقدام في ساحات الوغى، الفصيح البليغ العارف؛ وفي هذا المعنى يقول: 

لَكِنَّما عِوَلي إِن كُنتُ ذا عِوَلٍ
عَلى بَصيرٍ بِكَسبِ الحَمدِ سَبّاقِ

سَبّاقِ غايات مَجدٍ في عَشيرَتِهِ
مُرَجِّعِ الصَوتِ هَدًّا بَينَ أَرفاقِ

حَمّالِ أَلوِيَةٍ شَهّادِ أَندِيَةٍ
قَوّالِ مُحكَمَةٍ جَوّابِ آفاقِ

إذن لكي تغلبَ عدوّك لا بُدّ أن تكون عَدَّاءً رياضيًّا قويَّ البنية إذا ما تطلّبت المواجهة استخدام البدن، ولا بدَّ أن تكون عَدَّاءً سَبَّاقًا في الخيرات، ذا همّة وعزم وأخلاق رفيعة، فهذه الشّمائل هي التي تحمل ذكرك عاليًا بين الأقارب والأباعد على حدٍّ سواء.

وهكذا برع تأبّط شرًّا في استحضار السّباقات بمختلف أنواعها في العيد؛ فبينَ سباقٍ رياضي تفوق به بدنيًّا على قبيلة بجيلة، وفاق الخيول السريعة والظباء والنعام عدوًا وسرعة، وبين سباقٍ أخلاقيّ حدّد فيه خصال السابقين في الخيرات لديه وهويّتهم؛ بين السباقَينِ كان عيد تأبّط شرًّا، وفي استحضار تلكم المعاني كان عيدنا وما بعده؛ فدمتم بخير ودامت أيامكم مليئة بالأعياد والأفراح.

شارك: