سِباقٌ رِياضيّ وأَخلاقيّ في العيد

تحديثات مباشرة
Off
2023-04-23 14:06
رياضة السباق (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

تأبّط شرًّا يشدو ويعدو... في المجتمعِ الجاهلي الذي اتّسم بغياب العدالة الاجتماعيّة في كثيرٍ من مرافقه وقضاياه، برز الشّاعر الجاهليّ "تأبّط شرًّا"، الذي عُرفَ بأنّه من الشعراء الصعاليك آنذاك؛ إذ وجّه هؤلاء الشعراء غضبهم نحو الظلم الاجتماعي، وسلّطوا هجومهم على بنيان القبيلةِ وسادتها، وأعلنوا تمرّدهم على قوانينها وعلى كلِّ ما فيها من ظلمٍ وطغيان، وقد عُرف كثيرٌ من الشعراء بهذا الاسم في العصرِ الجاهلي، وكان منهم السادة وأكثرهم الخُلَعاء والمَنفِيّون والعبيد، وقد تميزوا بصفاتٍ خاصة، وكانت لهم قوانينهم وأعرافهم التي أسسوا لأنفسهم بناء عليها حياةً ذات نُظُم مختلفة عمَّا أَلِفه الناس في ذلك الزمان، وإذا أردنا تقريب صورة الحياة التي كانوا يعيشونها إلى الأذهان فعلينا أن نذكّر النّاس بحكاية (روبن هود) العالمية؛ إذ انطلق الصعاليك من مبدأ توزيع الثروة على جميع الناس، ليحظَوا بحياة كريمة تتسم بالعدل والمساواة، وقد شرّعوا لأنفسهم في سبيل خدمة هذا الهدف كلَّ الوسائل؛ بما فيها من نَهبٍ وسرقة. 

و"تأبّط شرًّا" هو الشاعر الصُّعلوك ثابتُ بن جابر الفَهْمي، من أهل تهامة، وقد وردت روايات عديدة في سبب تسميته "تأبط شرًّا"؛ منها أنّ أمَّه طلبت أن يأتيها بشيءٍ فأحضر أفاعٍ بعد اصطيادها ووضعها في جِراب مُتأبِّطًا إيّاه. ومن الرّوايات أيضًا أنه تأبط سيفًا وخرج، فقيل لأمه: أين هو؟ فقالت: لا أدري، تأبط شرًّا وخرج، وهكذا غدا هذا الاسم لقباً له يُعرف به.

وقد اشتهر الشعراء الصعاليك عامّة بصفات بدنية استثنائية، ولا عجب في ذلك؛ فمن يرصدُ نفسه للسرقة والنهب -بغض النظر عن نُبل الهدف والغاية- لا بدّ أن يتمتع بصفات جسدية خاصة ولياقة بدنية عالية، لا سيّما في مجال الجريِ والعَدوِ السريع. 

ومن أهمّ ما اشتهر به تأبط شرّاً لياقتُه الرّياضيّة العالية وشدّة سرعته في الرّكض، وقد قيل عنه إنّه: "كانَ أعدى ذي رِجْلَيْنِ وذي ساقيْن وذي عينيْن". وكانَ يُفاخِرُ ويُبالِغُ في وصفِ سُرعتِهِ في أشعاره كثيراً.

ولأنّنا في أيّام عيدٍ؛ أعاده الله عليكم وعلى أمتنا بالخير واليمن والسلام والبركات؛ فهلّموا بنا لنُلقي نظرة على شيءٍ من أدب العيد الذي امتزج برياضة العَدْوِ وسباقِ الجَريِ الذي فُرِضَ على شاعرنا فرضاً.

كتب تأبط شرّاً قصيدة جمع فيها بين الحديث عن العيد من جهة وعن السباق الذي اضطر إلى خوضه من جهة ثانية، وهي قصيدة غزيرة المعاني على الرّغم من أنّها ليست من مطولات القصائد الجاهليّة؛ فهي لا تتجاوز أكثر من ستة وعشرين بيتاً، وقال بعضهم إنها تصل إلى واحد وثلاثين بيتاً.

في مطلع القصيدة يخاطب "تأبّط شرًّا" العيد بحزنٍ ورقّة؛ فيقول:
يا عيدُ ما لَكَ مِن شَوقٍ وَإيراقِ
وَمَرِّ طَيفٍ عَلى الأَهوالِ طَرّاقِ

يَسري عَلى الأَينِ وَالحَيّاتِ مُحتَفِيًا
نَفسي فِداؤُكَ مِن سارٍ عَلى ساقِ

يخاطب الشّاعر العيد متعجباً من حجم الشوق والأرق الذي يُحْدِثُه في النَّفس البشريّة، وكيف يحشدُ أطيافَ مَن نشتاق إليهم، والكثير من الذكريات التي نحِنّ إليها على الرغم ممّا يُحيطُ بالمرءِ من أهوال ينبغي أن تجعله يذهل عن كل هذه المعاني الرقيقة، غير أنّ الليل هو محل الأشواق والحنين، فكيف إن كان هذا الليل في يوم عيد. 

تتسلّل الأشواق على وسادة من أَرَقٍ، ويطرق الحزنُ بابَ السكينة حافيّاً، ويَدهم الإنسانَ غيرَ هَيّاب من وحوش الليل وما فيه من مخاطر وحيّاتٍ وثعابين؛ فيا عجباً كيف تصل هذه الآلامُ إلينا ليلاً، وكم تفعل بأنفسنا وأرواحنا!

ثم ينتقل الشّاعر إلى الحديث عن سبب السّباق الذي خاضه في العيد؛ فيقول بروعةٍ وبلاغةٍ في التعبير:

إِنّي إِذا خُلَّةٌ ضَنَّت بِنائِلِها
وَأَمسَكَت بِضَعيفِ الوَصلِ أَحذاقِ

إذ يؤكّد تأبط شرّاً هنا رفضَه المنسجمَ مع موقفه الثائر المتمرد لتلكَ الصداقة التي تضنّ بفَيئِها ومُوجباتها وأعرافها؛ ويُعلن أنّه يَتبرّأُ من كلِّ صديقٍ لا يكون لصاحبه عوناً في السرَّاء والضراء، ولا تجمعه به علاقة وطيدة، ولا يَنْشَدُّ لما بينهما من صداقة بحبال وثيقة متينة، مُندِّداً ضارباً عرض الحائط بسمات الضعف والآنية والمنفعة الخاصة التي تتناقض مع حقيقة معنى الصّداقة الوثيقة.

ومن حديث العيد والصداقة يأخذنا تأبط شرّاً إلى وقائع السِّباق الذي اضطرّ إلى دخوله في أثناء هروبه من قبيلة (بجيلة)، ويسرد لنا حكاية فراره وكيفية تعامله مع الصّداقة النفعيّة والصّديق الأنانيّ؛ فيقول:

نَجَوتُ مِنها نَجائي مِن بَجيلَةَ إِذ
أَلقَيتُ لَيلَةَ خَبتِ الرَهطِ أَرواقِ

كانت حادثة هروب الشّاعر من قبيلة "بجيلة" من أهمّ حوادث حياته، وقد دخل بسببها في سباق جرى بينه وبين أفراد القبيلة، إذ كان هارباً بنفسه منهم، فاستخدم كلّ تقنياتِ العَدْو والجري للفرار منهم؛ وهذا هو حال المرء مع كل صاحبٍ أنانيٍّ لا يفكر إلا بنفسه، ويرجّح مصالحه على حساب الآخرين ولو كانوا أصحابه! وهكذا كان تعامل الشّاعر مع الصّديق النفعي؛ إذ فرَّ منه راكضاً بأقوى ما عنده من قوة وطاقة.

نُكمل حكاية العَدْوِ وفرار تأبط شرّاً، والسباق الذي خاضه مضطراً، في المقال القادم بِعَون الله.

وكلَّ عام وأنتم ومُحِبّو الرياضة والأدب والقراءة بألف خير.
 

شارك: