رِياضةُ الرِّماية

تحديثات مباشرة
Off
تاريخ النشر:
2023-06-18 14:37
رياضة الرماية (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

من المعروف منذ قديم الزمان أن تعلّم الرّماية أمرٌ بَدَهِيٌّ، وأقرب إلى الفطريّ لدى القبائل العربية التي كانت تعيش في شبه الجزيرة العربية، ففنون القتال كلّها أمرٌ ضروريٌّ للدّفاع عن النفس ومواجهة مختلف أنواع المخاطر التي قد تحيط بهم.

ناهيك عن أنّ حياتهم كانت قائمة على الحروب، والرِّماية صفة أساسيّة من صفات الفُرسان، وكلّما زادت قوة الفارس وظهرت مهارته في القتال والرّماية، كان حظه لدى عشيرته وأفراد قبيلته من المكانة والأهمية أكبر وأعمق.

والرَّميُ في اللُّغة هو الإلقاء والإطلاق والقَذف، نقول: رَماه بِسهمٍ: أي أطلقَهُ عليه، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى في سورة الفيل: ﴿وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول﴾.

ونقول رمى الحجارةَ أي ألقاها، وفي المجاز اللُّغوي: يرمي لهدفٍ ما أي يقصده، ونقول رَمى المكان بمعنى قَصده، ورَمى الشيءُ رَماءً ورَمىً أي أنه زاد ورَبا.

ومع قدوم الإسلام وبزوغ شمسه فوق جزيرة العرب بما فيها من أراضٍ وسهولٍ وجبالٍ، صار للقتال معنى مختلفًا؛ إذ تحوّل المسلمون إلى فكرة الجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ونشر رسالته، وتأدية واجب الدّعوة إلى دين الإسلام بفتح البلاد المجاورة والتوسّع والانتشار لامتداد رقعة الإسلام والسعي لهداية البشرية لما فيه خير لها بعون الله تعالى.

وقد أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتعليم الرّماية للأبناء وتعلّمها؛ إذ قال في الحديث الشريف: "عَلِّمُوا أولادَكم الرِّماية والسباحة وركوب الخيل".

وهناك كلام حول صحّة إسناد هذا الحديث الشريف للرسول الكريم، وحول قوله إيّاه بهذا التّعبير بالضبط، فقد ورد فيما أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرَّمْيَ، وَالْمَرْأَةَ الْمِغْزَلَ". وكِلا الرِّوايتين تؤكّد أهمّيّة الرِّماية والحثّ عليها في الثقافة الإسلامية.

ولننظر أيضاً إلى الحديث الشريف عن عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه أنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن رمى بسهم في سبيل الله فهو له عِدْلُ مُحَرَّرَةٍ".

ممّا يؤكّد أهمية الجهاد في سبيل الله من جهة، وأهمّية الرّماية من جهة ثانية؛ فمَن رمى سهماً يبتغي به وجه الله تعالى ونصرة دينه كان له جزاء مَن حرَّر رقبة.

ومن مبادئ الفروسية عامّة في ذلك الزّمان أن يكون الفارس قادراً على ركوب الخيل والقتال بالسيف أو استعمال النَّبْلِ في الوقت نفسه، أضِف إلى ذلك أهميّة الرّماية في الصَّيد أيضاً، فالصّيد لم يكن مصدراً للطعام فحسب، بل كانوا يمارسونه لاستعراض قدراتهم، وللتسلية واللَّهو والمتعة، فطبيعة البيئة المحيطة بهم التي كانوا يعيشون فيها، من حيث الجغرافيا والأعراف الاجتماعية، كانت تتطلّب منهم إتقان هذه المهارة إتقاناً حقيقياً لافتًا للانتباه.

ولا يمكن لنا أن ننسى فرقة الرُّماة وأهمية الدّور الذي كُلّفوا به من قِبَل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة أُحُد، فقد كان تمركزهم على الجَبَل وبقاؤهم في مواقعهم وتأديةُ المَهَمّة المَنُوطَةِ بهم عاملاً أساسياً من عوامل النَّصر، لولا أنّهم خالفوا الأوامرَ وتركوا مواقعهم، فالتفّ الكُفّار من خلفِ المسلمينَ وأحاطوا بهم، وحاقت بالمسلمين خسارةٌ فادحة في الأرواح والمعنويات على حدٍّ سواء، وفي هذه الحادثة إشارة تدلّ على أهمّية الرُّماةِ الذين تمّ اختيارُهم لأداء هذه الوظيفة والدّفاع عن المسلمين المجاهدين في ساعة الوغى والقتال آنذاك.

وكانت تُسَمّى فرقةُ الرُّماة بالنَّبَّالة أو النَّشابَة أيضاً، ومع تطوّر فنون القتال صارت تُرفَقُ السِّهام برسائل صغيرة تهدف إلى تحطيم الرّوح المعنويّة لجنود جيش العدو، لا سيّما حين يكون العدوّ محاصراً في حصن أو قلعة أو في بروج ذات أسوارٍ عالية، عندها تكون السهام المُحمَّلةُ بالرّسائل والتهديد خير وسيلة للوصول إليهم وتدمير معنوياتهم.

غير أنَّ رياضة الرّماية اقتصرت على فئة معينة وطبقة محددة من الطبقات الاجتماعية المتفاوتة مع مرور الزمن وتقدم الحياة وتطورها، كما أنّ هناك مدناً معيّنة اشتُهرت بعد عهد من الزّمن بمهارة الرُّماة فيها وأدائهم المميز، كمدينة سَبْتَة المغربية.

وهل يمكن للأدب والشعر العربي أن يغفل عن ذكر رياضة الرِّماية، أو فنِّ الرِّماية كما يحلو للبعض تسميتها؟

طبعاً لا، فالرِّمايةُ مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بحياة العرب من جهة، وطبيعة البيئة الجغرافية التي عاشوا فيها من جهة، ومبادئ الفروسيّة لديهم من جهة أُخرى.

وستكون لنا جولة ماتعة في المقال القادم في رياض الشعر العربي الذي أشاد برياضة الرّماية وسجّل كثيراً من الوقائع والأحداث المهمّة التي ارتبطت بفنّ الرّماية.


 

شارك: