رياضة الرّماية وتعزيز الانتماء إلى الهويّة

تاريخ النشر:
2022-11-16 13:44
الرّياضةُ منتج بشريّ، وليسَت حكرًا على جنسٍ أو عرقٍ أو لونٍ أو شعبٍ بعينه (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

الرّياضةُ منتج بشريّ، وليسَت حكرًا على جنسٍ أو عرقٍ أو لونٍ أو شعبٍ بعينه، غير أنّ الإسلام استثمر الرّياضة ومواطن التّدريب البدنيّ والعقليّ ليعزّز الانتماء إلى الهويّة الإسلاميّة الجامعة، واستقلال الشّخصيّة المسلمة، ورفض التبعيّة للآخرين في الحضارة أو في وسائلها وأدواتها التقنيّة.

ألقِها؛ وعليكم بهذه

أخرج ابن ماجه في السّنَن عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: كانت بيَدِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قوسٌ عربيةٌ؛ فرأى رجلًا بيدِهِ قوسٌ فارسيةٌ، قال: ما هذه؟! أَلْقِها، وعليكم بهذه وأشباهِها، ورِماحِ القَنَا؛ فإنها يؤيدُ اللهُ لكم بها في الدِّينِ، ويُمَكِّنُ لكم في البلادِ".

وهذا الحديث يروي موقفًا جرى بين النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وبين أحد أصحابه وقد رآه يحمل قوسًا من صنع الفرس، فكره له رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ذلك وأمره أن يحمل القوس التي صنعها بنو قومه العرب.

وذلك ليسَ فيه تحريم الإفادة من صناعات الآخرين من غير المسلمين؛ فإنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- قد أقرّ الإفادة من تجارب الآخرين ومن ذلك أخذه بمشورة سلمان -رضي الله عنه- عندما قال له يوم الأحزاب: "إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا" فحفرَ النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- الخندق، وفي ذلك دلالة صريحة على جواز الإفادة من خبرات الآخرين وصناعاتهم في المجالات المختلفة.

لكنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- هنا يندبُ أصحابه إلى عدم التّعلق إلى درجة التبعيّة بصناعات الآخرين، وفي هذا حثّ ضمنيّ على وجوب أن يكون للمسلمين صناعاتهم ومبتكراتهم وتميّزهم في هذا المجال.

وقد ناقش الفقهاء هذه المسألة في كتبهم، ومن ذلك ما يقوله الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشّافعي": 

"أنواع القسيّ تختلف باختلاف أنواع الناس، فللعرب قسي وسهام، وللعجم قسي وسهام، وقيل: إنّ أول من صنع القسي العربية إبراهيم الخليل -صلوات الله عليه- وأول من صنع القسي الفارسية النمرود بن كنعان، وكان النبي -صلّى الله عليه وسلم- يحبّ القوس العربية، ويأمر بها، ويكره القوس الفارسية، وينهى عنها، ورأى رجلًا يحمل قوسًا فارسية فقال: "ملعونٌ حاملها، عليكم بالقسي العربية وسهامها، فإنه سيفتح عليكم بها" وليس هذا منه محمولًا على الحظر المانع، وفي تأويله ثلاثة أوجه:

أحدها: ليحفظ به آثار العرب، ولا يعدل الناس عنها رغبة في غيرها، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيل القوس العربية باقيًا.

والوجه الثاني: أنّه أمر بها لتكون شعار المسلمين حتى لا يتشبّهوا بأهل الحرب من المشركين، فيقتلوا، فعلى هذا يكون النّدب إلى تفضيلها مرتفعًا؛ لأنها قد فشت في عامة المسلمين.

والثالث: ما قاله عطاء أنه لعن من قاتل المسلمين بها، فعلى هذا لا يكون ذلك ندبًا إلى تفضيل العربية عليها، ويكون نهيًا عن قتال المسلمين بها وبغيرها، وخصّها باللعن لأنها كانت أنكأ في المسلمين من غيرها، وقد رضي عنها الصحابة والتابعون في قتال المشركين، وإن كان الاقتداء برسول الله لكن في قوسه لمن قوي رميه عنها أحب إلينا، فإن كان بالفارسية أرمى كانت به أولى، ويكون الندب منها إلى ما هو به أرمى".

وفي هذا الكلام يبيّن الإمام الماورديّ أنّ الحديث لا يعني تحريم استخدام القوس المصنوعة من غير المسلمين، وإنّما فيه رسالةٌ لتعزيز الانتماء والهويّة وعدم التبعيّة للغير في سلوكهم وعاداتهم وصناعاتهم، وهذا من أهمّ مقومات بناء الشخصيّة المسلمة.

في إعداد القوّة تكمن القوّة

في سورة الأنفال يأمر الله تعالى عباده بإعداد القوّة فيقول جلّ وعلا: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ".

وقد بيّن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- أنّ أجلى مظاهر القوة المطلوب إعدادها هو الرّمي؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- وَهو علَى المِنْبَرِ يقولُ: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ" أَلَا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ".

وعندما تحدّث العلماء عن الإعجاز في هذه الآية بيّن كثيرٌ منهم أنّ الإعجاز البلاغي هو في تنكير القوّة "مِّن قُوَّةٍ"، ودلالة أن تكون كلمة قوّة نكرة هو؛ التّعميم؛ بأنّ المطلوب في الإعداد هو عموم القوة، من قوّةٍ نفسيّةٍ، وفكريّةٍ، وعلميّةٍ، وماديّةٍ، واقتصاديّةٍ، وإعلاميّةٍ، وعسكريّة، والتّكثير؛ وتفيد أنّ المطلوب هو إعداد قوّة كبيرةٍ يبذل فيها غاية الوسع لتكون رادعةً لقوّة العدوّ.

ولكننا عند التمعّن والتدبّر في الآية نجد أنّ في هذه الآية معنىً بلاغيًا مهمًّا يغفل عنه الكثيرون، وهو قوله تعالى آمِرًا: "وَأَعِدُّوا" أي عليكم أن تكون قوّتكم من إعدادكم أنتم، من صنعكم ومن ابتكاركم ولكم براءة اختراعها وعندكم أسرار صناعتها وبيدكم مفاتيح تطويرها، فقال: أعدّوا، وهو أمر صريح بأن تكون القوّة من إعداد المسلمين، لا من استيرادهم استيرادًا فيه تبعيّة لمن يستوردون منهم.

إنّ الرّماية وحثّ الإسلام عليها يستبطن معنىً من أهم معاني قوّة المسلم في حياته؛ هو اعتزازه بالانتماء إلى هويّته الإسلاميّة اعتزازًا عمليًّا لا شعاراتيًّا؛ بحيث يكون مستقلًّا بنفسه غير تابع على المستوى الفرديّ ومستوى الأمّة لمن يملكون القوّة التي يجب أن تكون مفاتيحها بيد هذه الأمة لتكون عزيزة قويّة مهابة الجانب. 
 

شارك: