حضُّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم على العناية برياضة الرّماية
الرّمي رياضة بدنية تسهم في تكوين الشباب، وكانت من الرياضات المشهورة عند العرب وجاء الإسلام وشجّعها، لما لرياضة الرماية من فوائد عديدة منها عملُ المجموعة العضلية متكاملةً مع بعضها، وضبط الجهاز المركزيّ العضليّ مع التّوفيق بين الحركة والسكون، وضبط المراكز العصبيّة العليا، وضبط الجزئيات العصبية الموصلة لأعضاء الجسم، وضبط أعصاب العين مع تحديد المكان والهدف متحركًا أو ساكنًا، والقدرة على تحديد العلاقات المكانيّة والزمانيّة والمسافة خصوصًا إذا كان الهدف متحركًا.
كما أنّ لممارسة رياضة الرّماية تأثيرها الفاعل في شخصيّة الشباب من ناحية الانضباط والانتظام للجسم وحركاته، وتلهمهم الشجاعة والثبات والإرادة القوية والصبر والاحتمال، وضبط السكون والحركة وتناسق الجسم في سكونه وحركته، كما تشترك فيها سائر أعضاء الجسم من حيث فائدتها للأعصاب والعضلات والعظام.
ترغيب النبيّ صلى الله عليه وسلّم في تعلّم الرّمي والحثّ عليه
أخرج مسلم في صحيحه عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَقُولُ: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ" أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ".
وهنا يفسّر النبيّ صلى الله عليه وسلّم القوّة المطلوب إعدادها بأنّها الرّمي وهو ليس نفيًا لضرورة إعداد بقيّة أنواع القوّة غير أنّه بيان أنّ أهمّ أنواع القوّة المطلوب إعدادها لمواجهة تهديدات الأعداء وعدوانهم هو الرّماية.
يؤكّد الإمام الطبري هذا المعنى في عدم حصر الأمر بالرّماية في تفسير الآية والتعليق على الحديث إذ يقول: "فإن قال قائل: فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين أن ذلك مرادٌ به الخصوص بقوله: "ألا إنّ القوّة الرّمي"؟ قيل له: إنّ الخبر وإن كان قد جاء بذلك؛ فليس في الخبر ما يدلّ على أنه مراد بها الرّمي خاصة، دون سائر معاني القوّة عليهم، فإن الرّمي أحد معاني القوّة، لأنه إنما قيل في الخبر: "ألا إن القوة الرّمي"، ولم يقل: "دون غيرها"، ومن "القوة" أيضًا السّيف والرّمح والحربة".
ويقول الإمام النّووي في شرح الحديث: "وفيه وفي الأحاديث بعده؛ فضيلة الرّمي والمناضلة والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله تعالى". كما أخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا سَبَقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ".
وفي هذا الحديث حثّ وتنبيه على أهمية المسابقة والرّياضة بهذه المذكورات والنّصل هو حديدة السهم ويقصد به المسابقة بالرّماية، والحافر أي حافر الخيل، وألحق به بعض أهل العلم البغال والحمير، والخف أي خف الإبل.
ومعنى ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم يحثّ على جعل جوائز ماليّة أو عينيّة للتنافس في هذه الرّياضات ومنها رياضة الرّماية.
ولقد أخرج أبو داود، والنّسائي، والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: "إنَّ اللهَ يُدخِلُ بالسَّهمِ الواحِدِ ثلاثةَ نَفَرٍ الجَنَّةَ: صانِعُه الذي يحتَسِبُ في صَنعتِه الخَيرَ، والذي يُجهِّزُ به في سَبيلِ اللهِ، والذي يرمي به في سَبيلِ اللهِ، وقال: ارمُوا واركَبوا، فإن تَرْمُوا خيرٌ لكم من أن تَرْكبوا، وقال: كُلُّ شيء يلهو به ابنُ آدَمَ فهو باطِلٌ إلَّا ثلاثًا: رَمْيُه عن قَوسِه، وتأديبُه فَرَسَه، وملاعبَتُه أهلَه؛ فإنَّهنَّ مِن الحَقِّ".
وفي هذا الحديث تعميم الأجر على كل من يسهم في الرّماية من صانع القوس وصانع السّهم والذي يناول الرامي والرامي نفسه، ويعدّ اللهو بالرماية نوعًا من الحقّ فهو لا يكون لهوًا باطلًا أبدًا.
كما أخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ والقَرّابُ عَنْ أبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ قالَ: "حاصَرْنا قَصْرَ الطّائِفِ فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم يَقُولُ: مَن رَمى بِسَهْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُ عِدْلُ مُحَرَّرٍ قالَ: فَبَلَغْتُ يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا".
وأخرج أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح عن عمرو بن عبسة رضي لله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "منْ رَمَى بِسهمٍ في سبيلِ اللَّه فَهُو لَهُ عِدْلُ رقبةٍ مُحرَّرةٍ".
وهنا يحثّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم على الرماية ويعدّ من يمارس الرماية في صد العدوان وترهيب المعتدين ممن يحرر الرقاب فكلّ سهم يُرمى يعدل تحرير رقبةٍ في سبيل الله تعالى؛ فأيّ أجرٍ أعظم من هذا!
ترهيبُ النبيّ صلى الله عليه وسلّم من نسيان الرّمي
أخرج مسلم في صحيحه "أَنَّ فُقَيْمًا اللَّخْمِيَّ، قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: تَخْتَلِفُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ وَأَنْتَ كَبِيرٌ يَشُقُّ عَلَيْكَ، قَالَ عُقْبَةُ: لَوْلَا كَلَامٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أُعَانِيهِ، قَالَ الْحَارِثُ: فَقُلْتُ لِابْنِ شَمَاسَةَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَالَ: "مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا" أَوْ "قَدْ عَصَى".
كما أخرج أبو داود عن عقبة بن عامر قالَ: سمِعْتُ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّ اللَّه يُدخِلُ بِالسهمِ الوَاحِدِ ثَلاثةَ نَفَرٍ الجنَّةَ: صانِعهُ يحتسِبُ في صنْعتِهِ الخَيْرَ، والرَّامي بِهِ، ومُنْبِلَهُ، وَارْمُوا وارْكبُوا، وأنْ ترمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ تَرْكَبُوا. ومَنْ تَرَكَ الرَّميَ بعْد مَا عُلِّمهُ رغبَةً عَنْهُ. فَإنَّهَا نِعمةٌ تَركَهَا أوْ قَالَ: كَفَرَهَا".
وأخْرَجَ القَرّابُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: "نِعْمَ لَهْوُ المُؤْمِنِ الرَّمْيُ ومَن تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَما عُلِّمَهُ فَهو نِعْمَةٌ تَرَكَها".
والأحاديث صريحة في الترهيب من ترك الرماية بعد تعلمها بغير عذر أو نسيانها، وقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: "هذا تشديدٌ عظيمٌ في نسيان الرّمي بعد علمه، وهو مكروهٌ كراهةً شديدة لمن تركه بلا عذر".
وهكذا نرى أنّ الرماية كانت حاضرة بقوّة في أحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلّم حضًّا وترغيبًا في ممارستها، وترهيبًا في تركها ونسيانها بعد تعلّمها، وما ذلك إلّا دلالةً على عظيم ممارسة هذه الرياضة التدريبيّة فائقة الأهميّة.