الصّحابة الكرام يمارسون الرّماية ويتعاهدونها

تاريخ النشر:
2022-11-10 13:28
الرماية رياضة اهتم بها الصحابة منذ بداية عهد الإسلام (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

ذكر ابن الجوزي في "المنتظم في تاريخ الأمم" أن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أوّل من عمل القِسِيّ العربية إبراهيم -عليه السلام- عمل لإسماعيل قوسًا ولإسحاق قوسًا، وكانا يرميان بهما وعلّمهما الرمي".

وقد استمر حضور الرماية في آل إبراهيم عليهم السلام إلى عهد يوسف عليه الصّلاة والسّلام، وجاء في سورة يوسف "قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا"، وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الرّماية كانت في زمن يوسف عليه الصّلاة والسلام تمارس باعتبارها رياضة، فقد جاء في تفسير ابن كثير لقول الله تعالى: "إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ" أي: نترامى، وفي تفسير القرطبي "نَسْتَبِقُ": ننتضل، وقال الزجّاج: ننتضل هـو نوع من المسابقة. وقال الأزهري: النضال في السّهام، والرهان في الخيل، والمسابقة تجمعهما.، وفي تفسير الجلالين "نَسْتَبِقُ": نرمي.

وبقيت الرّماية من أهمّ ما يتدرّب عليه الشّباب عند العرب قبل الإسلام، وعندما جاء الإسلام جعل لها حضورًا مركزيًاـ فكانت محلّ اهتمام الصّحابة الكرام جميعًا وموضع تنافسهم امتثالًا للتّوجيهات والأوامر النبويّة وتأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلّم.

صاحبُ أوّل سهمٍ يُرمى به في الإسلام

في سَريّة عبيدة بن الحارث والمعروفة أيضًا بِسَريّة رابغ التي أنفذَها رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- في شهر شوال من السّنة الأولى للهجرة حدثت مواجهةٌ غير قتاليّة بين المسلمين والمشركين وكانت محض مناوشات بين كتيبة المسلمين بقيادة عبيدة بن الحارث وقافلة قريش التي كان على رأسها أبو سفيان بن حرب وقيل مكرز بن حفص. في هذه المناوشات رشقَ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سهمًا على المشركين؛ فكان أوّل سهمٍ يرمى به في سبيل الله تعالى.

وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هو أحد العشرة المبشرين بالجنّة، وكان من بني زهرة من أخوال النبيّ -صلى الله عليه وسلّم، وقد كان عمله قبل الإسلام صانع أقواس وسهام وكان بارعًا في الصّناعة والرّمي، وكانت عنده قوس شهيرةٌ يضرب بها المثل في جودتها وحسنها، وهي موجودة إلى يومنا هذا في متحف سكة الحديد في المدينة المنوّرة.

وما جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- أبويه لأحد غير سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وفي ذلك يقول سعدٌ فيما يرويه البخاريّ في صحيحه: "نَثَلَ لي النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- كِنَانَتَهُ يَومَ أُحُدٍ، فَقالَ: ارْمِ، فِدَاكَ أبِي وأُمِّي" وفي رواية الحاكم: "انبلوا سعدًا، ارم يا سعد، رمى اللّه لك فداك أبي وأمّي"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللّهم سدّد رميته، وأجب دعوته، إيها سعد".

وفي هذا الحديث يحكي سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنّ النّبي -صلّى الله عليه وسلم- نَثَل له كنانته يوم أحد، والكنانة: جعبة السّهام، ونثل له كنانته، أي: استخرج سهامَها فنثرها له، ومعنى قوله: انبلوا سعدًا، أي: ناولوه النّبل؛ لأنّ سعدًا -رضي الله عنه- كان يجيد الرّمي، فقال صلى الله عليه وسلم: "ارمِ، فداك أبي وأمي"، وهذا حثّ لسعد على مباشرة الرّمي للأعداء المشركين، وهذه اللّفظة لا يراد بها الفداء على الحقيقة؛ بل هي للتّعبير عن حبّ كبيرٍ وبرّ عظيم واحتفاء بالغ وعظيم منزلة لهذا المفدَى عند المفدي صلوات ربي وسلامه عليه.

صحابةٌ يمارسون الرّماية

كان الصّحب الكرام حريصين على ممارسة الرماية وتشجيع بعضهم بعضًا على فعل ذلك؛ فقد روى ابن ماجه بسند صحيح "عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: كَانَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، يَمُرُّ بِي فَيَقُولُ: يَا خَالِدُ، اخْرُجْ بِنَا نَرْمِي، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا خَالِدُ، تَعَالَ أُخْبِرْكَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ وَلَيْسَ اللَّهْوُ إِلَّا فِي ثَلَاثَةٍ: تَأْدِيبِ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتِهِ امْرَأَتَهُ، وَرَمْيِهِ بِقَوْسِهِ، وَنَبْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَ مَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ كَفَرَهَا" أَوْ قَالَ: "كَفَرَ بِهَا".

وهذا نموذج يمثل الحال التي كان عليها عموم الصحب الكرام رضي الله عنه من تعاهد بعضهم بالرماية وتشجيع بعضهم بعضًا على ممارستها وعدم إهمالها.

توجيهات أمير المؤمنين إلى الولاة بخصوص الرّماية

كان عمر -رضي الله عنه- يرسل الرسائل إلى الولاة في الولايات المختلفة تحمل توجيهاته للرعيّة، واللّافت أنّ عموم هذه الرّسائل تتضمّن توجيهات بضرورة تعليم الرّماية وتعاهدها والمواظبة عليها.

جاء في كتاب "فضائل الرّمي، لأبي يعقوب اسحق القراب": "كتب الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- إلى أهل الشام: "أن علّموا أولادكم الّسباحة والرّمي والفروسية"

وجاء في كتاب "الفروسية المحمـدية" لابن قيم الجوزية: "عن قتادة قال: سمعت أبا عثمان النّهدي يقول: أتانا كتاب عمر بن الخطاب ونحن بأذربيجان، "أما بعد: إياكم والتنعمَ وزيَّ العجم، وعليكم بالشّمس، فإنها حَمَّامُ العرب، وتمعددوا "أي الزموا المعدية، وهي عادة معد بن عدنان في أخلاقه وزيه وفروسيته وأفعاله"، واخشوشنوا "أي تعاطوا ما يوجب الخشونة، ويصلب الجسم ويصبره"، واخلولقوا "أي تهيؤوا استعدادًا لما يراد منكم"، واقطعوا الرّكب، وانزوا على الخيل نزوًا "أي ثبوا على الخيل وثبًا واركبوها بلا ركاب لئلا تعتادوا الركوب بالركاب دائمًا"، وارتموا الأغراض "أي تعلّموا الرمي وتعاهدوه واقصدوا في الرمي الإصابة لا البعد".

قال ابن القيم: "هذا تعليم منه للفروسية، وتمرين للبدن على التبذّل وعدم الرفاهية والتنعم".

وهكذا نرى أنّ الرّماية كانت سلوكًا رياضيًّا وتدريبيًّا ملتصقًا بحياة المجتمع الإسلاميّ منذ نشأته الأولى، وينبغي تعاهدها لتبقى حاضرة بأنواعها المختلفة في حياة مجتمعات اليوم فهي خير رياضة تجمع بين القوة والتركيز والهدوء والصبر.

شارك: