أبو تمّام وسباقات الخيل تصويرًا وتشبيهًا

تحديثات مباشرة
Off
تاريخ النشر:
2023-05-07 13:53
صورة لرياضة الفروسية وركوب الخيل (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

للخيلِ سباقُها ورياضتها التي ما تزال تسلبُ الألباب عند العرب من أيّام الجاهليّة إلى يومنا هذا، وتعدّها أمم الأرض قاطبةً من عناوين الجمال، فبالإضافة إلى أنّ الخيل معقودٌ بنواصيها الخير كما بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فهي إحدى عناوين الجمال المريحة للنفوس كما قال ربنا تبارك وتعالى فيها وفي غيرها من الأنعام في سورة النحل: "وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ".

وما تزال سباقات الخيل تثيرُ الحماس في نفوس المتابعين، وتفجر الصور البليغة في نفوس الشعراء، وتُجري البلاغة على ألسنتهم عسلًا صافيًا سائغًا للشاربين.

ومن هؤلاء الشعراء الذين تحدثوا عن سباقات الخيل في شعرهم الشّاعر الفذّ أبو تمام؛ حبيب بن أوس الطائي؛ المتوفى سنة 846 ه، وهو أحد أبرز أمراء البيان وأساطين الشّعر العربيّ في العصر العباسيّ.

يصفُ أبو تمّام الخيول المشاركةَ في إحدى السباقات ببيت شعرٍ عجيبٍ، يقول فيه:

  • ذَوونَ، قُيُولٌ لَمْ تَزَلْ كلُّ حَلْبَةٍ
  • تمزّق منهمْ عن أغرَّ مُحنَّبِ

يتحدث هنا عن سادات قومهم حين يأتون إلى حلبة السباق بخيولهم، لكن خيولهم كلّها لا تقوى على مجاراة فرسه الأغرّ الذي بلغ تحجيله ركبتيه، وهنا يتغزّل بجمال حصانه أيضًا إلى جانب افتخاره بقوته؛ إذ يفوق بقوّته وسرعته كلّ الخيول التي جلبتها سادات أقوامهم من كلّ حدبٍ وصوبٍ إلى حلبة السباق.

وهكذا تغدو سباقات الخيل موضعًا ليتفاخر فيه صاحب الحصان السابق على السادات والوجهاء بسبق خيله وجمالها.

وتحضر كذلك سباقات الخيل عند أبي تمام بوصفها إحدى صور افتخاره بقومه؛ فحين أراد أن يفتخر بقومه شبههم بالخيل في مضمار السباق؛ خيل سابقة يضع عليها رهانه وهو واثق من سبقها وقدرتها على الفوز والانتصار؛ فيقول:

  • أَبى قَدرُنا في الجودِ إِلّا نَباهَةً
  • فَلَيسَ لِمالٍ عِندَنا أَبَدًا قَدرُ
     
  • لِيُنجِح بِجودٍ مَن أَرادَ فَإِنَّهُ
  • عَوانٌ لِهَذا الناسِ وَهوَ لَنا بِكرُ
     
  • جَرى حاتِمٌ في حَلبَةٍ مِنهُ لَو جَرى
  • بِها القَطرُ شَأوًا قيلَ أَيُّهُما القَطرُ

يفتخر ها هنا بقومه قبيلة طيِّئ، ويفتخر في الوقت نفسه بمضرب الجود والكرم فيها؛ حاتم الطائيّ، فالناس عوانٌ من الخيل؛ أي قاربوا الهرم، بينما قومه ما يزالون خيلًا فَتيّةً سباقةً في ميادين القوة وميادين الجمال.

ثمّ يتحدّث عن حاتم وهو يجري منطلقًا كأنه الخيل المضمرة يسابق المطر حتى إذا رآه راءٍ تعجب ولم يستطع معرفة أيّها هو الغيث لجوده وسرته.

ثمّ يحلّق في قصيدة أخرى مشبّهًا كرام قومه بالخيل في ساحات السّباق، ووجه الشبه هو صبرها واحتمالها وعدم رضوخها للمتاعب الماديّة والمعنويّة؛ فيقول:

  • ضِقنا بِدَينِكَ فَاِحتَجنا إِلى الدَينِ
  • مُذ غِبتَ عَنّا بِوَجهٍ ساطِعِ الزَينِ
     
  • وَكُنتَ عَونًا إِذا دَهرٌ تَخَوَّنَنا
  • عَينًا عَلَينا فَأَنتَ العَونُ بِالعَينِ
     
  • إِنَّ الجِيادَ عَلى عِلّاتِها صُبُرٌ
  • ما إِن تَشَكّى الوَجا في حالَةِ الأَينِ

فالجياد الأصيلة مهما أصابها من إعياء لا تشتكي، لا سيما وهي في ساحات السباق، وهكذا هم قوم أبي تمام كما يصوّرهم، لا يُظهرون أيّ شكوى مهما بلغ بهم الإعياء ليبقوا السابقين المقدَّمين على كرام الناس.

ويمضي أبو تمّام موغِلًا في صُورِ الخيلِ البديعة، ويشبّه الكرام من النّاس بالخيل في ساحات السباق، ويجعلها مضربَ مثل في الجود والكرم والتفوق على الآخرين؛ فها هو يمدح قومًا فيقول فيهم:

  • لا جودَ في الأَقوامِ يُعلَمُ ما خَلا
  • جودًا حَليفًا في بَني عَتّابِ
     
  • مُتَدَفِّقًا صَقَلوا بِهِ أَحسابَهُم
  • إِنَّ السَماحَةَ صَيقَلُ الأَحسابِ
     
  • قَومٌ إِذا جَلَبوا الجِيادَ إِلى الوَغى
  • أَيقَنتَ أَنَّ السوقَ سوقُ ضِرابِ

فهؤلاء القوم إن أحضروا خيولهم معهم إلى ساحات الوغى كان ذلك إنذارًا وإشعارًا يمهد لمعركة حامية الوطيس، فالخيول عنوان الجدّ والقوة والإقدام.

ولم يفتأ أبو تمام يمدح سرعة حصانه البالغة متغزلًا بسبقه لغيره، وبعموم صفاته؛ فتراه يقول:

  • لَيسَ بَديعًا مِنهُ وَلا عَجَبًا
  • أَن يَطرُقَ الماءَ وِردُهُ خِمسُ
     
  • يَترُكُ ما مَرَّ مُذ قُبَيلُ بِهِ
  • كَأَنَّ أَدنى عَهدٍ بِهِ الأَمسُ
     
  • وَهُوَ إِذا ما ناحاهُ فارِسُهُ
  • يَفهَمُ عَنهُ ما يَفهَمُ الإِنسُ
     
  • وَهوَ وَلَمّا تَهبِط ثَنِيَّتُهُ
  • لا الرُبعُ في جَربِهِ وَلا السُدسُ

فما أعذبَ ما وصف به جواده! وما أروع المعاني التي جاء بها! فجواده أسرع من الزمن في سبقه وسرعته!

هكذا هو أبو تمام في بعض أشعاره؛ صاحب صور فنية بالغة الجمال، وقد كانت الخيل وسباقاتها حاضرةً في تصويره وفخره ومدحه وغزله، وقد تنقّل بهذه الصور في شعره بين العذوبة والسلالة حينًا والجزالة والقوة في أحيان أُخرى، وبذا بقيت الخيل الأصيلة بخفّتها وسرعتها مبعث فخر وموطن جمال رئيسٍ في شعر أبي تمام.

شارك: