نيمار.. حاجة غريبة!
"حاجة غريبة"، جملة قالتها الفنانة شادية للفنان عبد الحليم حافظ في فيلم معبودة الجماهير، وأظنها تنطبق قولًا وفعلًا على النجم البرازيلي نيمار دا سيلفا، المغضوب عليه في نادي باريس سان جيرمان.
وأصل الحكاية أن طائر الكناريا الأصفر لم يعد يسر الناظرين، بات في نظر الجمهور الباريسي لاعبًا غريب الأطوار، من الصعب أن تتنبأ بما سيقدم عليه من تصرفات صبيانية طائشة، وحماقات (ممسرحة) أعيت من يداويها.
أكون جاحدًا إذا قلت إن نيمار لاعب عادي شأنه شأن معظم اللاعبين الذين مروا على تاريخ كرة القدم، فهذا البرازيلي الراقص لاعب مشحون بالموهبة الخارقة، وحافل بألعاب ساحرة يمارسها كحاو لا يخلو جرابه من الحيل الذكية التي لا يتوقعها خصومه؛ لكنه مع الأسف لم يقدر حجم موهبته الخارقة، فرمى بها في وحل التقاعس والإهمال واللامبالاة.
أعرف أن بعضًا من بني آدم أخذ لقب الإنسان الهلوع، والإنسان الذي يطغى، لكن نيمار وحده أخذ الكثير من غلة تباينات النفس الأمارة بالسوء، فوصم نفسه مع سبق الإصرار والترصد على أنه اللاعب الأكثر جدلًا في ملاعب كرة القدم.
موهبة نيمار المثيرة للاهتمام ليست محل خلاف على الإطلاق، كما أن عبقريته في جعل كرة القدم لعبة سهلة انسيابية لا يختلف عليها اثنان؛ لكن مشكلته الصارخة أنه عدو نفسه، كلما خرج من حفرة سقط مجددًا في (دحديرة).
لا يستطيع هذا البرازيلي الذي يفترض أنه بلغ سن الوقار الكروي أن يتحرر من عبودية النفس التي لا تقنع والبطن التي لا تشبع، فيبخس حق موهبته ويذلها كثيرًا ويضيق بها ذرعًا، والنتيجة أنه يسقط في فخ التعليب النفسي بصورة تثير استياء كل عشاقه، حتى أنه بتصرفاته غير المنضبطة استنزف الكثير من سمعته كلاعب كان يعول عليه الكثير، على أساس أنه الوحيد الذي كان قادرًا على هز عرشي الملكين ليونيل ميسي وكرستيانو رونالدو في عز مجدهما.
ومشكلة نيمار المستعصية أنه رهين نزواته، ما يكاد يخرج من نزوة حتى يسقط في أخرى بطريقة تثير غيرة السذاجة نفسها، وعندما يمارس الفعل ونقيضه ويكرر عادة الخروج عن النص كل موسم، فإنه لا يكتفي بهذا التصرف الأرعن على تقديم نفسه على أنه علامة استفهام محيرة فحسب، لكنه أيضًا يؤكد للقاصي والداني أن الهرج والمرج والفوضى جزء من شخصيته الانفصامية، والطبع يغلب التطبع كما نعلم.
حاولت مرارًا وتكرارًا التماس العذر لراقص السيليساو الذي شبهوه يومًا ما بالساحر الذي لا يغلق فمه أبدًا (رونالدينيو)، لكن نظرة خاطفة على حجم تجاوزاته مع باريس سان جيرمان ستنفض عن رأسك فكرة إصلاحه وتهذيبه وإعادته إلى جادة الصواب.
عندما نفد نيمار بجلده وهرب من جحيم برشلونة بحثًا عن الجنة في باريس، لم يكن عنده أدنى فكره أنه بهذا الخروج أصبح مثل الأعرابية التي ضيعت اللبن في ذات صيف ساخن وملتهب.
وعندما اعتقد نيمار أنه هرب أخيرًا من ظل ميسي، وكان واثقًا أنه سيلعب دور البطولة المطلقة في باريس سان جيرمان، اصطدم بعقليته التي تكره النظام والانضباط كراهية الذباب للون الأزرق.
أما أخطر عيب في شخصية نيمار فيتعلق بشخصيته المهزوزة والمتذبذبة والمتخاذلة، فتأثيره على المجموعة كلاعب في المواعيد الكبرى يتلاشى، بدليل أنه لا يجيد فن التعامل مع التراكمات والضغوط، فيسقط مغشيًا عليه عند أول منعطف يتطلب منه حزمًا وحسمًا وصبرًا.
وكما كان في برشلونة مجرد لاعب في منظومة ليونيل ميسي، لا يمكنه التغريد خارج النص، ولا يستطيع أن يتمرد على سطوة الساحر الأرجنتيني، عاد من جديد ليمارس ذات الشيء مع باريس سان جيرمان، حين سلم كل عوامل الحسم وقوة التحمل والهيمنة للكتكوت الفصيح الذي خرج من بيضة موناكو يصيح، الأمر هنا بطبيعة الحال يتعلق بالمدهش كليان مبابي، الذي أنجز في خمس سنوات ما لم ينجزه نيمار في 15 عامًا.
وسط هذا الضباب الذي يحيط بمستقبل نيمار الذي شارف على التقاعد، يتجاهل هذا البرازيلي بديهية لا يمكن تجاهلها، أي كي تكون لاعبًا مؤثرًا غزير الإنتاج، حاسمًا في المباريات الكبيرة يجب أولًا: أن يغلي الإصرار بداخلك كبركان ثائر يقذف حممه في كل مكان.
وثانيًا: يلزم أن يتأجج في جسدك لهيب إحراز الأهداف ومن مختلف الزوايا، مهما بدت صعبة وشائكة، وثالثا وهذا الأهم: عليك أن تتعلم من أخطائك ولا تكررها حتى لا تتحول إلى أضحوكة في نظام احترافي الخطأ فيه ممنوع.
لا يريد نيمار أن يظهر للعالم بـ(نيولوك) جديد ينفض عنه غبار التخاذل والاستهتار، تمامًا مثلما أنه دائم التجاوزات لا يتعلم من أخطائه، ولا يعلن التوبة، لذا يظهر لنا جميعًا لاعبًا ميتًا لا يمكنه الدفاع عن أحلام فريقه.
وإذا كان نيمار لاعبًا مزاجيًا متقلب كالطقس، مرة فوق ومرات تحت، فإنه أيضًا لاعب استعراضي يبدو كما لو أنه يعمل في سيرك، وهذا العيب الخطير نتاج شخصية مركبة قليلة الطموح تُسبب الكثير من الترهل الفني والاحتقان التكتيكي لفريقه.
ذات مرة وصفه مدرب منتخب البرازيل السابق (دونغا) بأنه لاعب سطحي، ضعيف على مستوى الثقافة والتوعية، وفاشل من ناحية الخبث التكتيكي، لأنه غالبًا يسخر موهبته الفردية لإشباع غريزة خاصة، وهذا السلوك يضع نيمار بكل قدراته لاعبًا هاويًا يفتقد لكاريزما الاحتراف.
أصبح نيمار ضيفًا ثقيلًا يكتم على أنفاس إدارة نادي باريس سان جيرمان، وقنبلة موقوتة في غرفة الملابس يمكن أن تنفجر في أي وقت، لم يعد أحد يثق به، أو يلتمس له الأعذار، لأن الثقة في إعادة تأهيله نفسيًا تزعزعت، فلم يعد بوسع رئيس نادي باريس سان جيرمان، السيد ناصر الخليفي، تحمل وزر نزوات هذا اللاعب التي لا تنتهي.
يعتقد الذين يتابعون مسلسل نيمار مع ناديه أن المشكلة التي يتعرض لها في باريس من إعداد زميله الصغير كيليان مبابي الذي ما أنفك يعلن تذمره من طيش زميله نيمار؛ لكن الحقيقة أن نيمار هو أساس المشكلة، وهو من وضع نفسه بين البصلة وقشرتها، و لأن لكل فعل رد فعل، فإن أزمة نيمار مستحكمة لم يعد بالإمكان الخروج من نفقها دون دفع ضريبة باهظة تضع نيمار على حافة الهاوية.
ليس غريبًا بعد كل هذا الطرح أن يتحول نيمار من لاعب مدلل طلباته أوامر، إلى لاعب منبوذ إداريًا وجماهيريًا، بدليل أن ناديه يريد التخلص منه هذا الصيف بأي ثمن دون أن يجد ناديًا أوروبيًا كبيرًا يتحمل كلفة راتبه السنوي الباهظ.
وخلاصة الكلام: إدارة باريس سان جيرمان بلغ سيل صبرها على نيمار الزبى، ومن رابع المستحيلات أن تفتح الإدارة صفحة بيضاء جديدة مع لاعب استعراضي مستهتر ومتقلب المزاج، فمع مدرب مثل لويس إنريكي يعرف كل صغيرة وكبيرة عن نيمار، لا يمكن لباريس سان جيرمان أن يلدغ من نفس الجحر مرتين.