مارادونا | ساحر الأرجنتين وقديس نابولي والكتاب الأكثر مبيعًا
من منا لا يتذكر الكرة التي رَسم عليها الممثل توم هانكس وجهًا ليؤنس منفاه القسري في فيلم cast away؟! ومن منا لم تحرث وجدانه دموع صاحبها، وهو يمطر فيها البحر الغاضب وجعًا لفراق كرته، بعدما أفلَتت منه عند محاولته إنقاذ نفسه وتاهت؟! الكرة ذاتها لا بد أنها ستبكي كلّما تذكرت عرّابها وساحرها الأوّل مارادونا!
لا يمكن التوقف عن تذكّر الرجل الذي كان سببًا صريحًا في تعلّق الكثيرين بكرة القدم، وقد أنجزت عنه السينما العالمية فيلمين وثائقيين عظيمين: الأوّل صوّر سنة 2009 للصربي أمير كوستريتسا بعنوان «مارادونا» والثاني «دييغو مارادونا» أنجز سنة 2019 لآصف كاباديا، الذي يفتح فيه أرشيف مارادونا في الفترة التي لعب فيها لصالح نادي نابولي الإيطالي، ويعرض فيه لقطات عُرِضت لأوّل مرة في تاريخ ساحر الكرة الأرجنتينية.
فيما كتب عنه الشاعر الراحل محمود درويش نصًا آسرًا عقب نهاية مونديال المكسيك عام 1986، كذلك صدرت أربعة كتب عن سيرته الشخصية هي: «مونديالي حقيقتي.. هكذا فزنا بالكأس» صدر بمناسبة مرور ثلاثين سنة على فوز بلاده بكأس العالم، وروى فيه مارادونا عن ذكرياته مع هذا المونديال، وكتاب «مارادونا السيرة الذاتية لأعظم النجوم» وفي هذا الكتاب يستعيد الأسطورة الأرجنتيني بداياته وقصّته مع الفقر، وكتاب آخر عبارة عن سيرة تحليلية للمؤلف جيمي بيرنر.
لكّن ظلّ كتاب مذكرات مارادونا «إل دييغو» (صدر سنة 2005) هو الأبرز وقد حقق مبيعات غير مسبوقة في سوق الكتب، واعتبر تحفة أدبية أجمع كبار المثقفين والأدباء على الإشادة بها وإطرائها، إذ تحدّث الرجل عن نشأته في «فيلا فيوريتو» المدينة الفقيرة المزدحمة بالسكان في ضواحي بوينس آيرس والعابقة بالتخلّف والعدم، وعن أبيه الذي كان يخرج إلى العمل في الرابعة صباحًا ليعود ميتًا إلى المنزل آخر اليوم. ربما لهذا كان معبود الفقراء وصديقهم.
شجاعة دييغو في السرد المتعاقب للسيرة الخارقة التي كان عليها، جعلت من الكتاب مادة تستحق كلّ الاحترام لعرّاب الحماس، وسطوة الفن الأرجنتيني المغروس على العشب، والذي ارتفع بالشهرة الى حواف السماء بعد أن كان فقيرًا لا يعرفه أحد!
فيما يفرد ماردونا في كتابه مساحة وافرة للحديث عن نابولي النادي والمدينة التي أحالته إلى قدّيس فيقول: «إنهم يحبونني حقًا، كانت نابولي مدينة مجنونة، مجنونة مثلي، كرة القدم هي الحياة لدى أهالي نابولي. ذكرتني بأصولي وجذوري، جنون في الطرقات، إضرابات عن الطعام. أناس قيدوا أنفسهم بالسلاسل على سياج استاد "سان باولو" يترجونني أن آتي.. كيف يمكنني أن أخذلهم».
يروي الشاعر هاني نديم في بورتريه طويل كتبه عن مارادونا، وكيف حوّل حضور مارادونا إلى إيطاليا الحياة وقلبها رأسًا على عقب، وكيف كانت إيطاليا فعليًا مقسمة إلى اقتصادَين منذ توحيدها عام 1871. الشمال الصناعي الغني، والجنوب الزراعي الفقير... سيطر الشمال على كرة القدم: يوفنتوس وإسي ميلان والإنتر. لم يفز أي فريق جنوبي إلى أن جاء دييغو الذي قلب الطاولة والبلاد والمراهنات وكل البديهيات.
لم يعانِ إيطالي من العنصرية والمناطقية أكثر من ابن مدينة نابولي. لذا فإن المدينة كانت تغلي، وتريد أن تثأر لنفسها ولو لمرة، أوكلت أنطونيو جوليانو رئيس النادي لشراء دييغو مارادونا من برشلونة بأي ثمن، اجتمعت لأجل هذه الصفقة كل مرافق نابولي، الشعب والمؤسسات وحتى المافيا النابوليتانية «ألكامورا»! لقد جمعوا المال الناقص من أصحاب المحال ومن المؤسسات في مدينة كانت حينئذ دون رئيس بلدية وفي نقص فادح في الوحدات السكنية والصرف الصحي والمدارس والحافلات والعمل والضمانات، إلا أن الصحف عنونت في اليوم التالي من الصفقة "لا يهم: لدينا مارادونا".
جوليانو يشبه مارادونا، هو أيضًا من أحياء نابولي الفقيرة. لقد استطاع أن يقنعه بالمجيء إلى فريق مغمور، همس له قائلًا: ستصبح معبودًا في نابولي، الشعب سيموت من أجلك! وافق مارادونا على الفور، كان بحاجة ماسة إلى الحب والتقدير بعد سنوات مع برشلونة عانى فيها من التمييز العنصري والدونية أينما ذهب. جوليانو بدوره كان يريده بأي ثمن، وافق على رقم قياسي لم يعرفه العالم في الثمانينيات للتوقيع مع هذا الأرجنتيني، برشلونة بعد أن تم الاتفاق على عشرة ملايين وأربعمائة ألف دولار طلب في آخر لحظةٍ مبلغًا إضافيًا قدره نصف مليون جنيه إسترليني لإتمام الصفقة.
المبلغ تم جمعه من الشعب النابوليتاني بجهود مجموعات بشرية انتشرت في الشوارع ولك أن تتخيل من أين؟.. من المساكن سيئة السمعة في الحي الإسباني ومن حي فورسيلا الذي تديره ألكامورا، ساعدوا جميعًا في تعويض الفرق وتم تنفيذ الصفقة.
على قائمة أهم اللحظات في تاريخ الرياضة، ما يزال مشهد مارادونا وهو يدخل إلى استاد سان باولو في نابولي بين ثمانين ألف مشجع، ينتظرون قديسهم. كانوا ينشدون نشيدًا يملأ القلوب بصوت واحد.. رأيت مارادونا.. رأيت مارادونا.
ولعلّ أبرز ما وصف لمباريات الدوري الإيطالي في سيرته الذاتية ما قاله عن مباراة نابولي ويوفنتوس: «كان كل شيء ضدنا، الجميع في الملعب، ولكن الأسوأ، الأسوأ على الإطلاق، كانت لافتات «مرحبًا بكم في إيطاليا!» هذا جعلني أخوض معركة لا مباراة، إنه جزء من كفاحي كيساريٍّ وفقير. لقد هزمت يوفنتوس».