ماذا تركت قطر للراغبين في استضافة كأس العالم؟
بعد النجاح الكبير الذي سطرته قطر في تنظيم النسخة الـ22 من نهائيات كأس العالم لكرة القدم والتي أسدل الستار على فعالياتها مساء الأحد 18 ديسمبر/كانون الأول، بفوز منتخب الأرجنتين باللقب، باتت الدول المُقبلة أو الراغبة في استضافة هذا الحدث العالمي أمام تحدي مجاراة التنظيم التاريخي الذي قامت به قطر لهذا الاستحقاق والذي فاق كل التوقعات.
العنوان الأبرز في التنظيم القطري تمثّل في تلبيتها لكافة الوعود التي قطعتها بتنظيم نُسخة رائدة وغير مسبوقة وهذا ما حدث فعلًا، بدءًا من الاستادات الثمانية التي تم تشييدها والبنية التحتيّة ووسائل النقل الداخليّة والخارجية ومقرات الإقامة الخاصّة بالمُنتخبات المشاركة ومئات الآلاف من المشجعين الذي قدموا من كافة قارات العالم لحضور المباريات، وانتهاءً بحفلي الافتتاح والختام الرائعين واللذين جسدا القيم الرياضية والتسامح والإنسانية والتلاحم ما بين الشعوب، وما بينهما الإخراج الجميل للمباريات وفي كافة أدوار البطولة.
المُثير في التنظيم القطريّ للمونديال عدم إغفال التفاصيل الصّغيرة والتي كانت أشبه بالبهارات أو ملح الطعام الذي أضفى نكهة رائعة على الحدث، فمن حضر حفل الافتتاح والمباراة الأولى التي جمعت قطر مع الإكوادور على استاد "البيت" لن ينسى بالتأكيد الحقيبة المليئة بالتذكارات كتميمة المونديال ونسخة من القميص الذي ارتداه الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، عندما كان صغيرًا لمُمارسة لعبة كرة القدم والموشح بتوقيعه، إذ حصل كلّ فردٍ حضر الافتتاح على نسخة من هذا القميص التاريخي في حقيبةٍ معبقة برائحتي دهن العود والمسك في داخلها.
نعرج هُنا على الحضور النشط للمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي والذين كان لهم دور كبير في نقل رسالة قطر الحضارية إلى العالم أجمع، والأهداف السامية للدولة من استضافتها للحدث الذي كان بمثابة عامل جذب لهم ومثير لفضولهم؛ لكونه يقام في بلد عربي آسيوي شرق أوسطي للمرة الأولى في التاريخ، إذ تخطى دور هؤلاء المؤثرين والذين كانوا من مختلف الجنسيات في تشكيل رافعة إعلامية قوية للمونديال، الدور الذي قامت به وسائل إعلام عالمية مرموقة ووكالات أنباء عريقة، فيما يُسجّل لدولة قطر نجاحها الباهر في جذب هؤلاء الأشخاص الذين يتابعهم مئات الملايين.
ويُسجّل لقطر خلال استضافتها للمونديال عدم إغفالها للجهود التي بذلها مختلف العاملين في البطولة إلى جانب المتطوعين، إذ سيبقى مشهد تكريم عامل المترو الكيني أبو بكر عباس عالقًا في ذاكرة جميع من حضروا المباريات وهو الرجل الذي كان مغمورًا قبل أنّ تطأ قدماه الدوحة للعمل في إرشاد الجماهير إلى الطرق المؤدية للمترو الخاص بنقل المشجعين للمباريات، حيث نال تكريمه إشادات كبيرة من مختلف وسائل الإعلام وكذلك من الاتحاد الدولي لكرة القدم.
ولم تغفل قطر عن فئة مهمة من المجتمع عادة ما تواجه صعوبات ومعوقات جمة في متابعتها للمباريات بشكل مباشر، وهي فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين توافرت لهم أماكن خاصّة، في أجمل مشاهد الاندماج المجتمعي، ويكفي هنا الإشارة إلى أنّ الدعوة للوقوف للاستماع إلى السلام الوطني لكلّ منتخب، كانت تتضمن عبارة الرجاء الوقوف في حال القدرة للاستماع إلى هذا السلام الوطني وهي العبارة التي أخذت في عين الاعتبار القدرات الجسدية لذوي الاحتياجات الخاصة والذين تم تكريمهم أجمل تكريم في المونديال.
اليوم الأخير للمونديال كان حافلًا بالمشاهد الآسرة فاللغة العربية التي ينطق بها 22 بلدًا عربيًا كانت حاضرة من خلال الشاعرين العربيين، الفلسطيني تميم البرغوثي والموريتاني محمد ولد بمبا واللذين ألقيا قصيدة عين الرضا التي نالت استحسان ورضى الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج.
النشيدان الوطنيان للأرجنتين وفرنسا قبيل المباراة الختامية تم غناؤهما من قبل مغنيتين محترفتين وبصوت أوبرالي ساحر ليتماهى مع أصوات الجماهير الحاضرة واللاعبين.
آخر المشاهد وأكثرها جمالاً تتمثل في مشهد التتويج والذي تجسدت فيه العبقرية التنظيمية القطرية، عندما قام أمير البلاد الشيخ تميم بن حمد، بوضع "البشت" العربي رمز العزة والفخر والسمو على كتفي ليونيل ميسي قائد منتخب الأرجنتين أثناء تسلمه كأس العالم لكرة القدم الذهبية، إذ ستظل صورة ميسي وهو يرفع كأس العالم رفقة زملائه اللاعبين إحدى الصور الأيقونية الخالدة في تاريخ البطولة ومُنذ انطلاقها عام 1930 وحتى اللحظة وشاهدة على نسخة لن تتكرر وستضع كافة الدول المقبلة على تنظيم البطولة أمام تحديات جمة تتمثل في تخطي التنظيم القطري، لهذا الحدث والذي جاء سابقًا لعصره.
فالنسخة الـ23 من المونديال ستقام بعد أربعة أعوام من الآن عام 2026 بتنظيم مشترك من دول الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك، والتي ستخوض سباقًا محمومًا منذ الآن للحاق بركب التنظيم القطري، وهي إن استطاعت فلن تتمكن من تخطي التفاصيل الصغيرة والكبيرة بآن معًّا، فكيف الحال في النسخة التي تليها والمُقررة عام 2030 والتي ستتزامن مع مئوية المونديال؟
أخيرًا وليس آخرًا، نعم انفض سامر المونديال، لكن الإعجاز العربي القطري سيبقى عالقًا في ذاكرة وأفئدة عشاق كرة القدم في شتى أنحاء العالم، وشاهدًا على عبقرية فذة قلّ نظيرها، فالعرب وإن غابوا لبرهة من الزمن إلا أنهم لم ولن يغيبوا طويلًا.