كيف خضعت الرياضة للنزعة الماديّة الاستهلاكيّة؟!
عندما نتحدث عن النزعة المادية الاستهلاكيّة فإننا نقصد بها الفكرة التي تقضي بأن زيادة استهلاك السلع والخدمات الماديّة هدفٌ منشودٌ دائمًا للإنسان، وأن رفاهية الشخص وسعادته يعتمدان أساسًا على امتلاك الأشياء والحصول على السلع الاستهلاكية، وهي تقوم على الانخراط في أسلوب حياة مادي أكثر من اللازم، والتمحور حول استهلاك مفرط واضح أو انعكاسي أو مبذر.
وهكذا نشأت ما تعرف بظاهرة "مجتمع المستهلكِين" أو بتعبير آخر "مجتمع السّوق" الذي ذكر الفيلسوف الفرنسي "ألتوسير" أنّه مجتمع يحكم على أعضائه ويقيّمهم بما لديهم من قدرة استهلاكية وما يتبعونه من سلوك استهلاكي مادي فحسب.
ومما لا شكّ فيه أنّ الرياضة قد تأثرت تأثرًا بالغًا بالنزعة الاستهلاكية إلى درجة الخضوع لها بوصفها أسلوب حياة كما خضعت لمجتمع السوق؛ فتغيرت الطريقة التي يُنظَر بها إلى الرياضة، لتتحول من المنافسة والمتعة إلى جوانب أكثر تعقيدًا ترتبط بعالم المال والتجارة والاستثمارات الضخمة والاستهلاك الماديّ البحت، وباتت الرياضة قادرة على تحويل المشجعين إلى مستهلكين شرهين دون وعي منهم بذلك التحول السلوكي والخضوع لعوالم الاستهلاك الماديّ.
لقد تعرّضت الرياضة للتسليع المفرط العابر للحدود، متأثرة في ذلك بالعولمة والرقمية المهيمنة على عالم اليوم، وأصبحت تتخطى المحلية، وهذا ما أتاح لها إمكانات تسويقية وربحية عالية من خلال البضائع الرياضية والإعلانات، فأثرت الرياضة في ثقافة المستهلك، وأصبح للرياضة مستهلكوها الشغوفون، وباتت المسابقات الرياضية مشبعة لأقصى حد بالصور الاستهلاكية والإعلانية، ولها موضاتها الخاصة، وفرض المحتوى الرياضي نفسه على أذواق المستهلكين، ومن خلاله تسللت الأنشطة التجارية والمالية والإعلانية بعدما دخل نجوم الرياضة ومشاهيرها على خط الإعلانات التجارية.
ميسي في إعلان دعائي
فلكَ أن تتخيّل أنّ بعض الرياضيين، الذين لهم حضور عالمي، قد تحولت صورهم إلى علامات تجارية تُدر الكثير من الأموال والأرباح، حتى شبّه بعضهم صور هؤلاء بأنّها من العقارات باهظة الثمن التي تصلح للتجارة الرابحة، وكلما زادت شعبية الفريق أو الرياضي زادت إمكانية الاستثمار، فأصبحت بعض شعارات الأندية ماركة تجارية مميزة تُدر الكثير من الأرباح.
ومما لا يخفى أنّ هناك منافسات شرسة وحروبًا مستعرة في الخفاء بين قمصان الأندية الكبرى على احتلال السوق التجارية للمشجعين، وهو مجال دخلته شركات السيارات والهواتف المحمولة وشركات الطيران وغيرها، التي باتت تنشئُ علاقات إعلانية ذات أرباح كبيرة مع الأندية الرياضية لتسويق منتجاتها وعلاماتها التجارية، سواء في الملابس التي يرتديها الرياضيون أو في الإعلانات الموضوعة في الملاعب الكبرى أو الاعلانات في أثناء البرامج الرياضية.
ولقد أوضح الدكتور أمين الخولي في كتابه "الرياضة والمجتمع" أنّ أتباع نظرية الصراع يشيرون دومًا إلى أن الرياضة المعاصرة قد اصطبغت بالصبغة الماديّة، وأصبحت من أكبر مجالات تسويق البضائع والمصالح التجارية، ولقد فسر بعضهم ذلك الارتقاء الملحوظ للرياضة بأن المصالح الرأسمالية كانت وراءه؛ إذ يجتهد المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي في خلق وافتعال احتياجات غير ضرورية للإنسان من أجل توسيع دوائر تسويق السلع.
وتعمد المجتمعات الاستهلاكية إلى توفير ذلك في إطار أنشطة تتطلب الجهد وليس الراحة، كما في الرياضة، فتصنع أدوات رياضية منزلية باهظة الثمن، موهمة بأنها تغني عن المشاركة الرياضية في اللعب، فابتدعت الدراجة المنزلية وقارب التجديف الثابت وجهازًا لضرب كرة الجولف في داخل المكتب أو العيادة أو غرفة النوم، وتزايدت المصحات والأندية الخاصة التي تُعلِّم الناس كيف يهرولون في الطرق بالطريقة الصحيحة.
كما توسعت الأنشطة التجارية للمنتجعات الرياضة والصحية، وارتبطت السياحة بالرياضة، وزادت تجارة الملابس والأدوات الرياضية بشكل غير مسبوق، وأقيمت عروض الأزياء الرياضية من أجل أن يبتلع السوق كل جديد وبنهم شديد، والمستفيد الوحيد هم أصحاب المصالح التجارية، أما المشترون فيا ليتهم يمارسون الرياضة بما يشترون؛ إذ أصبح الزي الرياضي مجرد "موضة" للتباهي والاقتناء كما أصبحت الأدوات والمضارب الرياضية جزءًا من مكملات التزين في المنازل.
إن خضوع الرياضة لمنطق الاستهلاك يخرجها عن كثير من أهدافها الإنسانيّة الراقيّة؛ ولذلك من الضرورة بمكان التنبّه الدائم إلى المزاوجة بين القيم الرياضيّة الواجب ترسيخها في المجتمع والإفادة الماديّة من الفعل الرياضي؛ لأنّ تحول الرياضة إلى سلوك استهلاكيّ ماديّ بحت يهدد القيم الرياضيّة والقيم المجتمعيّة؛ لذا يجب الانتباه الدائم.