فازت الأرجنتين بالكأس.. وفازت قطر والمغرب بالعالم!
يرى بعض الأشخاص أن الفوز بالبطولات وتحقيق الألقاب مجرد شعور وقتي بالسعادة وسرعان ما ينتهي، ومن يدرك قيمة الانتصار في عالم الرياضة بإمكانه أن يستشعر قيمة الإنجاز، ومن شاهد مسيرات الفرح التي جابت شوارع العالم العربي بإمكانه استشعار حقيقة ما تعنيه فرحة الفوز، والمنتخب المغربي في مونديال قطر يجوب شوارع المونديال ويتخطى أعتى المنتخبات الأوروبية بوصوله لنهاية المطاف إلى المرحلة النهائية ليخرج منها مرفوع الرأس، محطماً كل الأرقام، ومغلقاً أفواهاً كانت تشكك في كل ما هو عربي.
الإنجاز الذي حققته النخبة المغربية بتأهلها على التوالي للدور الثمن ثم الدور النصف نهائي، لتحصل في النهاية على المرتبة الرابعة، شكل فخراً للمجتمع العربي والإسلامي وحدثاً تاريخياً بامتياز، كأول منتخب عربي وأفريقي يحقق هذا الإنجاز الكبير في بطولة كأس العالم، تحركت على إثره مشاعر وقلوب الملايين تعبيراً عن انتصار يمثل كل العرب والمسلمين والأفارقة، وبيّن مدى تعطش هذه الأوطان للفوز والظفر والانتصارات التي تذكرهم بتاريخهم وأمجادهم.
من هنا أصبحت كرة القدم مجالاً خصباً، ورحباً يتسع للجميع بمختلف الأطياف والمشارب للتعبير عن حب ونصرة الوطن ووضعه فوق كل اعتبار والرغبة في وصوله لمرتبة رفيعة بين الأمم والحضارات.
لن أكون مبالغاً إذا قلت إن العالم العربي والأفريقي والكثير من ساكني هذا الكوكب لديهم حالة عشق وافتتان بأداء المنتخب المغربي في بطولة كأس العالم لكرة القدم المقامة حالياً في قطر.
فالثورة الكروية العربية المغربية في هذه البطولة المثيرة أشبه بقصة مدهشة تأسرك مشاهدها وملامحها، وأحياناً تتحول إلى فيلم في أجزاء (هيتشكوكية) ولا تستطيع أن لا تتابعه؛ لأن كل حلقة من الحلقات أجمل من التي سبقتها وتشدك تفاصيلها.
نجومه هم كوكبة من اللاعبين الأبطال، المقاتلين بروح استثنائية وشراسة واستبسال يقودهم المدرب المغربي الفذ وليد الركراكي الذي صرح بعد مباراة المغرب مع بلجيكا، التي حقق فيها المغرب انتصاراً صريحاً على ثاني منتخبات العالم تصنيفاً، لماذا لا نحلم بالفوز بكأس العالم في هذه البطولة؟
ضحك عليه الناس وسخروا من كلامه واعتبروه كهلوسة أماني، ولكن مع كل مباراة زادت الثقة وتحققت الانتصارات الواحد تلو الآخر، وزاد الطموح وباتت الجماهير تردد نفس سؤال الركراكي لماذا لا نفوز بكأس العالم؟!.. فلماذا نحن العرب نقلل من إمكانياتنا، ولا نثق في إمكانياتنا ولا نحقق أحلامنا ونحولها لواقع ولماذا لا نرفع سقف طموحاتنا؟
أظهر هذا الإنجاز لمنتخب أسود الأطلس -الذي أسهم فيه بشكل كبير بجدارة واستحقاق جميع اللاعبين وكذلك ذكاء وحنكة مديره الفني وليد الركراكي واحترافية طاقمه التقني- حماسة الوطن المغربي وشغفه بالكرة المستديرة باختلاف أعماره وأطيافه وفئاته الاجتماعية التي لم تستثنِ أحداً، حتى النساء اللواتي كن يعاتبن أزواجهن على تتبع مباريات كرة القدم، خرجن مع أطفالهن لمساندة المنتخب والاحتفال بفوزه في مختلف المدن والقرى برفع أصوات الزغاريد وكل الوسائل التعبيرية التقليدية والحديثة بالفرح والنخوة العربية.
هذا الانتصار أظهر أيضاً تلاحم أبناء الشعب المغربي والعربي، وتوحد مشاعرهم ومواقفهم والاعتزاز بثقافتهم والافتخار بتقاليدهم ولغتهم ويقظتهم في دفاعهم عن قيمهم وأهدافهم وقضاياهم العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وهو ما عبّرت عنه الجماهير المغربية والعربية برفع أعلام الراية المغربية والفلسطينية، وارتداء قمصان المنتخب الوطني وترديد الشعارات والأهازيج في الشوارع والطرقات والأسواق والمقاهي والساحات العمومية بعفويتهم وفرحهم العارم، وكأنه حلم ظل يحمله أبناء الشعب المغربي منذ زمن بعيد؛ لكن الحلم بدون اجتهاد واستراتيجية يكون مفزعاً، فالحلم يواكبه العمل والكفاح والنضال لتحقيق الهدف.
الأرجنتين فازت بالكأس وقطر والمغرب بالعالم
إن كان الكأس قد فاز بها أصدقاء ميسي، فقطر فازت بمحبة وتقدير العالم، وفازت بقلوب كل العالم، في الإنسانية في تقريب وجهات النظر وفي كونها عقدت مؤتمراً عالمياً ناجحاً بكل المقاييس يحمل بشائر جديدة للروح الإنسانية الممزوجة بالروح الإسلامية السمحة.
كما أبانت قطر بتنظيمها لكأس العالم بمواصفات استثنائية كأول تجربة عربية في تاريخ هذه البطولة، أنها بإرادتها وعزيمتها قادرة على رفع التحدي وإيقاظ الحس العربي المشترك وخلق أجواء رائعة، لإنجاح تظاهرة بهذا الحجم الكوني في مناخ أخلاقي وإنساني يليق بأمة ذات أمجاد وتاريخ عريق.
إن مثل هذه التظاهرات الرياضية العالمية أوضحت أن النهوض الحضاري للأمم والشعوب يمكنه أن يتسع ليشمل نواحي متعددة؛ سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية وفنية، وهو من أهم الدروس والعبر المستقاة من هذا التجمع الإنساني، الذي يترجم رسالة واضحة مفادها أن ما يجمع الإنسانية أكثر مما يفرقها، وأن العالم كلما تأزم سيظل في حاجة إلى العرب وثقافتهم ليطلقوا نسمة حب ببعد أخلاقي وحضاري تجسد قيم العروبة والإسلام.
وفاز المغرب كذلك بقلوب العالم بعدما رفع شأن الكرة العربية والأفريقية في فضاء العالمية، النجاحات التي حققها المنتخب المغربي في مونديال قطر 2022، هل تكون مقدمة لتغيير القناعات والمفاهيم التي حصرت الكرتين العربية والآسيوية في قائمة الوجود والحضور الشرفي، وهل وجود منتخب عربي ضمن الأربعة الكبار في العالم إثبات لواقع جديد وتحول في موازين القوى أم إنها حالة استثنائية قد لا تتكرر في قادم البطولات؟
فالحقيقة الواضحة للعيان أن ما قدمه منتخب المغرب، يمثل نقطة تحول حقيقية في تاريخ كأس العالم من شأنها أن تغير الكثير من المفاهيم المغلوطة عن المنتخبات العربية، القناعات لن تتغير إلا إذا قمنا نحن بتغييرها دون الانتظار أن يأتي من يغيرها، العرب قادرون على المنافسة والمنتخبات العربية والأفريقية والآسيوية قادرة على مقارعة الكبار، بشرط أن تكون لديها القناعة على ذلك، وهذه هي ثمار الاحتراف الحقيقي لا الوهمي.
نجح المغرب إلى حدٍ كبيرٍ جداً في تغيير نظرتنا إلى أنفسنا والاعتقاد بجدية أننا قادرون على اختراق حاجز عبارة أن نكون رقماً في المنتخبات المشاركة في كأس العالم، التي تحولت إلى ما يبدو "لشماعة" تعلق عليها الإحباطات المتتالية، وإبقاء سقف الطموحات في مكان آمن ومتدنٍ، فبدل أن نكون أرقاماً علينا أن نتحول إلى معادلة؛ فالحمد لله على نعمه.
وشكراً لقطر في يومها الوطني الذي احتفل به كل العالم، إنها أيام مرت سريعة لكنها ستبقى خالدة منقوشة بمداد الفخر والاعتزاز.