رحل بيليه.. هيّا لنقاتل من أجل الحياة!
«منكسراً أعدو إليك، أشكو سراب رحلتي، وغربتي، ووحدتي، محتمياً بما لديك، ولم يزل في صدرك الرحيب متّسع، وفي نفاذ الضوء من بصيرتك، جلاء ظلمتي!» يخاطب الشاعر والإعلامي المصري فاروق شوشة والده بهذه الكلمات التي تليق باحتفال ميلاد، كما يتاح لها في الوقت نفسه أن تسيّج مهابة الموت وقداسة الرحيل الأخير!
أستعير هذا المقطع لولع شوشة بكرة القدم، وأهديه بذات الوقت إلى أول الآباء في كرة القدم الذي رحل عنا منذ أيام.
إننا في لحظة فارقة اليوم، ونحن نعيش غياب أسطورة كرة القدم وأحد آبائها المرجعيين: إديسون أرانتيس دو ناسيمنتو المعروف باسم "بيليه" (1940-2022)، والذي سمّاه والده تيمّناً بالمخترع العظيم توماس إديسون، فإذا به يصبح مخترعاً من نوع مختلف، أجاد ابتكار أصناف مغايرة من الفرح المنكّه بالسحر والدهشة.
وكأن سنة 2022 المتوهّجة بـ"مونديال قطر" وحصد المغرب للمركز الرابع فيه، أبت إلا أن تذوي مع حدث قاتم برحيل "الجوهرة السوداء"، وربما هي قاعدة "الحزن أصيل، والفرح يبقى طارئاً في هذه الحياة".
بيليه الذي شغل منصب وزير الرياضة في البرازيل ذات مرّة، شغل منصب سفير كرة القدم إلى العالم كلّ يوم! كيف لا، وهو من قبّل الكرة في استاد ماراكانا في ريو دي جانيرو عندما سجّل هدفه رقم ألف، كأنّه آمن بالحكمة البرازيلية التي تقول: "الكرة إمرأة مغناج، لا يمكن مقابلتها إلا بالانصياع التام لكلّ رغباتها، حتى عندما "تتنازل" وترفض دخول المرمى بأحلك الظروف وأصعب اللحظات".
فلنسحق الحياة المسحوقة
رحل بيليه إذن، ووالدته دونا سيليست على قيد الحياة، والدته التي شارك بيليه صورة معها في الشهر الماضي محتفلاً بعيد ميلادها الـ100، وكتب لها رسالة مؤثرة، إلا أنها لا تعرف بوفاة ابنها، كونها غير واعية.
طبعاً كان متوقعاً مُضيّه النهائي بسبب وضعه الصحي المتهاوي، عن عمر ناهز 82 عاماً، قضاها متنسّكاً متصوفاً زاهداً في معبد كرة القدم، كما يرغب عشّاقها المتطرفون تسميتها، وكما شبّهها الروائي الأوروغوياني الكبير إدواردو غاليانو. لن يجدي نفعاً سرد ومضات من سيرة حياته المترفة بالغنى، والمنسوجة على نول الدراما التي تحبس الأنفاس!
بيليه أشهر من أن يُعرَف، لكن ربما يجدر بنا الانصياع لما قاله لنا مرّة المخرج الصربي الكبير أمير كوستريستا عندما سألناه وجهًا لوجه في القاهرة: لماذا اخترت ماردونا كي تصنع عنه فيلماً مفضلاً إياه عن أي لاعب آخر، فقال: "سألت نفسي السؤال ذاته، فقلت لن أعرف إنجاز فيلم عن بيكهام مثلاً! نعم هو لاعب بارع، لكن ليس في حياته ما يجذبني لأنتج فيلماً عنه. مارادونا حطّم حياته، ولو حطم بيكهام حياته، سأصوّر عنه فيلماً الآن".
ذلك لأن صاحب فيلم "Underground" يميل في صوغ منجزه الفني لتقفّي أثر الحالة المسحوقة، ومواكبة الترنّح المطلق لحدود تجاوز القاع! لكنّ فعليّاً، وفي حياة النجم الأسمر، توجد مساحات وافرة من الألق، والانكسار والصراع الإنساني والمهني، والتباينات الحادة التي يمكن لها أن تشكّل مادة جوهرية وبنية مرجعية، لسلسلة أفلام سينمائية أو مسلسل تلفزيوني محبوك! وبالفعل، أُنجز عن ملك كرة القدم عدّة أفلام أبرزها وثائقي بعنوان: "بيليه: ولادة أسطورة" (كتابة وإخراج جيف زيمباليست، ومايكل زيمباليست، عام 2006)، وهو من أفضل الوثائقيات التي أُنجزت عن لاعبي كرّة القدم. سبقه فيلم "بيليه إلى الأبد" (إخراج أنيبال مسايني نيتو سنة 2004) وفيلم "بيليه" (إنتاج شبكة "نتفليكس" 2021، إخراج ديفيد ترايهورن وبن نيكولاس- قُدّم ضمن سلسلة عن الرياضيين، وقد احتفى به بيليه وروّج له عبر حساباته الرسمية)، فيما يظلّ الفيلم الروائي "الهروب إلى النصر" (1981 إخراج جون هيوستن) بمثابة فارقة في حياة الراحل، لأنه اشتغل فيه كممثّل إلى جانب نجمي هوليوود آنذاك؛ سيلفتر ستالون ومايكل كين، وهو شريط يحكي قصة أسرى من دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لدى أعدائهم الذين يسمحون لهم في معسكرهم بلعب كرة القدم كنوع من الإلهاء المثالي، فإذا بهم يشكّلون فريق كرة قدم متميّز، ويلعبون ضد فريق ألمانيا النازية، ويخططون للهرب خلال المباراة، لكّنهم بين الشوطين يفضلّون تعديل تأخرهم بنتيجة 1-4 على هروبه، لكّن إرادتهم ستنتصر عندما يحرزون التقدّم، فيهتزّ الملعب مشتعلاً باقتحامه من قبل الجماهير التي تحمل الأسرى وتحررهم..
العنصرية، السينما، الحياة
على ضفّة مقابلة، تنشغل السينما العالمية منذ زمن طويل في الحديث عن العنصرية التي تعرّض لها السود خلال التاريخ، وقد صدر قبل أيّام فيلماً من بطولة النجم الشهير ويل سميث حمل عنوان emancipation"، وهو للمخرج الأمريكي أنطوان فوكوا. ولعلّ المعاناة التاريخية في عبودية السود أُشبعت بالتجارب بكل تأكيد، لكن ضرورة تدويرها عبر الزمن مسألة مهمة لكلّ الأجيال، وهو ما يجعل السينما تعيد اجترار الأفكار ذاتها بهذا الإطار!
ومن البديهي القول إن مناضلين أمثال: مارتن لوثر كينج ونيلسون مانديلا وروزا باركس ومالكوم إكس أو مالك شاباز، قد بذلوا الغالي والنفيس بمواجهة العنصرية والعبودية، وحققوا منجزات مهمة ومرجعية في قضية السود وحرب اقتناص حصّتهم العادلة من الحياة، لكن ربما يكون أشهر من أنجز على هذا الصعيد هو بيليه، أصغر من لعب في كأس العالم، وأصغر من فاز به مع منتخب بلاده، وأصغر من حقق فيه "هاتريك" كذلك!
صحيح أنّه تعرّض لانتقادات لاذعة لعدم التزامه بفكرة مكافحة العنصرية خاصة عندما دخل معترك السياسة وصار وزيراً بين عامي 1995 و1998، وكان ممكن له أن يترشّح للرئاسة، لدرجة أن باولو سيزار، الذي تُوّج مع بيليه في كأس العالم سنة 1970، قال عن دو ناسيمنتو: "كان لديه سلوك الأسود الخاضع الذي يقبل بكل شيء"، لكنّ نضاله أخذ شكلاً مختلفاً، بل أبلغ أثراً، وأعتى سطوة، وأبهى سحراً!
إذ لا يمكن لعنصري، مهما بلغت أفكاره مقتاً، أن يرفض فكرة تسجيل نجم أسمر هدفاً لبلاده أو لناديه، ويتحوّل لمهندس شغف متّقد لجميع العرقيات والإثنيات والقوميات والألوان والانتماءات! هكذا، حقق بيليه قفزة نوعية في فضاء الفرح، عندما كان أوّل أسمر برازيلي يرفع كأس العالم سنة 1958، وأعاد السيرة ذاتها مرّتين بعدها. وقد صرّح لاحقاً بالقول: "لقد عوملت كقرد.. كزنجي.. لكنني لم أهتم.. أفضّل أن أكون قدوة لعائلتي وجماهيري.. إنها معركتي".
حدث كلّ ذلك بعد أن وصلت الكرة للبرازيل على يد طالب اسمه تشارلز ميلر في القرن التاسع عشر، إبان عودته من بعثة دراسية في إنجلترا، حاملاً في حقيبة سفره كرتين وكتاباً عن قوانين اللعبة، ليتمكن بعدها البرازيليون من تحدي الدستور الذي كان يحرم معظمهم من أدنى حقوقهم، وصارت الكرة ملاذهم الوحيد المتاح للجميع قبل أن يقودهم أسطورتهم بيليه إلى حمل كأس العالم، في وقت كان يرزح السمر تحت وطأة العنصرية!
كيف يموت الإلهام؟
كلّ ذلك بكفّة وما تمّكن منه "الجوهرة السوداء" على ضفة موازية سيكون بكفّة ثانية، يوم نجح مع رفاقه في نادي سانتوس المحلي في تحقيق هدنة بحرب نيجيريا الانفصالية سنة 1967. هكذا، يمكن تخيّل الحوار الذي دار بينه وبين زملائه في غرفة الملابس، بينما كانت ولايات الجنوب الشرقي في نيجيريا (بيافرا) تهزّ ضمير الإنسانية، وهي تنشر صوراً لمئات آلاف الأطفال الذين قضوا جوعاً إثر هذه الحرب الأهلية الجائرة! حينها لابد أن بيليه قال لرفاقه مثلاً: "كما صنعنا السعادة على وجوه البرازيليين والمضطهدين حول العالم، لابد لنا أن نسهم في اجتراح جسر إنساني يعبر من خلاله الماء والغذاء والدواء لأطفال نيجيريا... هيّا يا رفاق، لنقاتل من أجل حياة الفقراء".
وسرعان ما جهّز الفريق أغراضه وسافر إلى البلد المنكوب الذي كان يتنازع فيه أهله، وتجرّب بعض أقاليمه الانفصال بسبب ما تتعرض له من مجازر. ولعب بيليه مع ناديه مباريات ضد فرق محلّية، وتمّكن فعلاً لما كان يحمله من شعبية من تحقيق هدنة إنسانية، وترك فرصة لعبور الدواء والغذاء للمناطق المحاصرة، وقد وثّق ذلك بسيرته الذاتية وبمجلة التايم الأمريكية!
في البرازيل عشرة ملايين طفل يلعبون في الشوارع, وإذا أراد أحد الأندية أن يبحث عن موهبة واعدة ارتاد كشّافوه الأزقّة الفقيرة. هكذا، توقف بيليه ذات مرّة في أحد شوارع ساو باولو يتفرّج علي طفل يلعب، فإذا به يمنح من خلال قدميه العامرتين بالدهشة آلة الزمن للجوهرة السوداء، ليركب فيها ويعود نحو سنوات شبابه، يوم كان يوقف قلب العالم كلّه من فرط السحر الممزوج باللهفة. فقط لأن الطفل ذكرّه بنفسه, حمله في سيارته مع أبويه نحو أحد الملاعب الكبرى, وتعاقد الأب مع النادي, وانضم الطفل الموهوب إلى أطفال آخرين في نادٍ يحتضنهم ويربيهم ويطعمهم ويسقيهم ويتعاقد من أجلهم مع أندية أوروبية تشترى هذه المواهب بعد سنوات.
فكل نجوم كرة القدم اللاتينية أولاد شوارع ويشرفهم ذلك، وبيليه ملهمهم الآسر الذي مشى حافياً ولبس أكياس القمح في طفولته المسحوقة، ثم عاش ليحفر بعمق مهول ذاكرة أجيال متعاقبة!