بيليه.. لماذا تركت العرش وحيدًا؟
كنت أتمنى أن أكتب إليه قبل رحيله المفجع عن هذه الدنيا الفانية، لا أن أكتب عنه مرثيةً بدموع اللوعة، لكن المنية كانت أسرع من هذه الأمنية، أعني بهذا الملك بيليه الذي توارى أمام هجوم الموت الضاري.
هناك في قارة الأمازون، حيث الأفق المخضب بلون العقيق، حيث طواك الردى أيها الملك، تهجر الألوان قوس قزحها، ويطوي المساء ملاءة نجومه، تتبعثر المجرة، و ترتبك الأفلاك، فيهتز عرش مملكة كرة القدم وهي ترثي ملكها بيليه، ذلك الكوكب الدري الذي فارق الحياة بعد صراع مرير مع مرض السرطان.
هناك في البرازيل يبكي القمر ظله، وينعي الليل غسقه، تنساب غمغمات الوداع على وجنات تذرف الدمع الهتون، هناك أيها الملك حيث الوطن يحتويك تحت ثراه تنكمش عطايا الشمس، تغرب في عين حمئة، ولا تترك خلفها سوى بقايا لمسير فارس ترجل عن حصان مملكته بعد 82 عامًا.
الآن أيها الملك وقد غادرت مملكتك مع الأسف والاحترام، لن تشكو لأحفادك مرارة الغربة، ستكف أيها القديس عن كتابة بقايا أحزانك، ستنام بسلام في قبرك، ولن تشغلك تفاهات المقارنات مع من لا يستحق أن يكون ظلًا لألقابك وأرقامك.
أخيرًا أيها الملك، يا من رفعت من بورصة البشرة السوداء في مزاد البشرية، وفرضتها لونًا للمتعة، وشغفًا للأرقام، ووطنًا للألقاب، كتب السرطان النهاية المؤلمة لحكايتك مع مملكة كرة القدم، حكاية غرام تفوق بكثير غرام روميو لجولييت.
أدري يا بيليه أنك ملك لمملكة كروية لا يدانيك فيها فارس لا من قريب ولا من بعيد، لعبت واعتزلت وبقيت ملكًا لكل الأرقام، فمنذ أن ركلت الكرة صبيًا يافعًا تحولت من مجرد لعبة إلى فن رفيع يوزع تراثه على رمال الكوبا كابانا، ويستعرض عروضه في كرنفالات الريو دي جانيرو.
نعم يا ملك المكان وقمر الزمان لا أحد يقترب من كوكبك وينازعك على عرشك، فمن يسجل 1281 هدفًا في أقل من عشرين عامًا، ويحفر وجدانه على تحفة كأس العالم ثلاث مرات، لن يجاريك أحد، ولا أحد قادر على مداعبة كل هذا الإرث، ولو عمّر في الملاعب قرنًا من الزمن.
عندما غردت طيور الكناريا الصغيرة لأول مرة كان بيليه عندليبها وبقدميه الذهبيتين أسمع كل من به صمم، لم يكن ميلاد الفتى بيليه في كأس العالم بالسويد عام 1958 إلا إيذانًا بمولد الملك الذي خلّص كرة القدم من مللها ورتابتها وعقمها.
قبل أن يعلق بيليه وصيته الأخيرة على أجراس العاصفة كان قد وضع لكرة القدم دستورًا جديدًا، ففي عهده أصبح لكرة القدم لحنًا خاصًا لا يمكنه أن يغادر نص رقصة السامبا.
قبل بيليه كانت كرة القدم "كر وفر وإقبال وإدبار" إلى آخر معلقة الملك الضليل الشاعر امرئ القيس، ومع قدوم بيليه ارتفع سقف حلاوة اللعبة إلى أن غدت فنًا يعزف بقدمي أديسون أرنتيس دو ناسيمنتو.
جاء هذا الفتى العبقري الأسود بما لم تأتِ به الأوائل، كان يختزن في قدميه حيلًا فنية لا يستطيع المنافس التنبؤ بها، وكانت خطورته الدائمة تنبع من عقله قبل قدميه، تشهد له الشباك فقد كان جلادها لسنين سادت ثم بادت، وتشهد على قريحته كلاعب مبتكر وبارع، قدميه النحيلتين الباسقتين تعزفان سيمفونية موغلة في الشموخ والكبرياء.
أبدًا أيها الملك لم تسقط سهوًا من ذاكرة أجيال تعاقبت صفقت لك دون أن تراك لاعبًا، فتنت بك دون أن تبخسك حقك كملك متوج على عرش العقول والقلوب معًا، ومن دون منافس حقيقي ينازعك مملكة أرقامك وألقابك.
أجيال وراء أجيال، وهي تؤمن بحقيقتين لا غبار عليهما وهما: إن الليل يعقبه النهار، وبيليه ثابت في مملكته، لا أحد يسبقه أو يليه أو يتعقبه مهما كان الهوس بدييغو مارادونا، ومهما بلغ تعصبنا لليونيل ميسي.
لن تسقط أبدًا سهوًا من ذاكرة ملاعب عالمية أتحفتها بالكثير من تحفك الخالدة، ولن تتنكر لك كرة القدم وقد كنت ملحها حينًا وسكرها في أغلب الأحيان، وموسيقارها الأول دون منازع.
رحلت أيها الملك مضرجًا بأوجاعك لكنك باقٍ في قلوب من عاصروك ومن جاؤوا من بعد بعدك، ستبقى سابحًا في دورة كرة القدم الدموية، لن ينسى البرازيليون أنك ولدت من قلب فاجعة هزت استاد الماراكانا، فقد كانت الأحزان تلف البلاد بعد خسارة مونديال 1950 أمام الأوروغواي، بكى الشعب البرازيلي عن بكرة أبيه وأمه، إلا أنت فقد برزت من بين رماد الأحزان مثل طائر الفينيق، عاهدت ووعدت بتحويل الأتراح إلى أفراح، فبريت بالقسم والوعد، وأنت مجرد صبي في عمر الزهور.
في كل مباراة عالمية كنت تثور وكأنك عاصفة من عواصف الكاريبي، ومع كل بطولة تزرع في مآقي راقصي السامبا نجيمات الصباح، كلما علا موجك الهادر وتناسل من قدميك ما يمكث في الأرض إلا وعدت للبرازيليين محملًا على ظهر غيمة تمطر خيرًا وفيرًا.
يا هذا المدى القاحل الذي يلتحف بغبار الوداع، ما مر يوم إلا وبيليه هنا يستثير الوجدان، وينحت الإحساس، ويفجر في دواخلنا عيونًا ماؤها كالزلال، ما مر يوم إلا والملك هنا يطل من عليائه، من سهول وبقاع تاريخه تفوح الطيوب، ومن بهائه في قمته الشماء تتلألأ الدروب، ما مر يوم إلا وبيليه هنا بوقاره وخفة ظله يغري الغصون ويمارس عشقه المصون، لا يرى في مداه إلا شعب يسكن قفصه الصدري ويتغذى من أحشائه حيث دره الكامن يساوي مملكة كرة القدم بكل تجلياتها.
حتى عندما غادر بيليه ملاعب كرة القدم وهجرها، ظل بالنسبة للبرازيليين ذلك الرمز العفيف النقي الذي لم يتلوث تاريخه الطويل بأي تجاوز أو خروج عن النص، بقي بيليه قمرًا بوجوهٍ مختلفة، كل قمر أجمل من الآخر، بيليه بالنسبة للبرزيليين ملكهم، خلهم الوفي، صديقهم وقت ضيقهم، الأيقونة والرمز، والمختصر المفيد لعالم كرة القدم.
مات الملك بعد قصة عذاب مريرة مع سرير المرض، فبدأ وكأن الزمن في البرازيل توقف برهة لينعى هذا الرجل الذي صنع لبلاده شيئًا من لا شيء، فكيف تبدو البرازيل مع هذه الفاجعة؟
حسنًا يبدو صرير الريح مبهمًا هذا الصباح، لا شمس توغل في الشروق، ولا قمر يفتت سحب السماء الداكنة التي تبكي بيليه بأمطار حمضية لا خير فيها لزرع أو لضرع.
في البرازيل كل الأماكن تئن وتبكي رحيل الملك الذي أسعد العالم لنصف قرن، مع كل محنة وخيبة مونديالية يفتش البرازيليون عن ملكهم، ويلوذون بأرقامه وألقابه، وفي كل مرة يمنحهم الأمل وبقايا صبر.
لك وحدك يا بيليه شيد العالم معبدًا للحزن، وقصرًا للفراق، لأحزاننا طعم في مذاق الدم، تكبر في قلوبنا وقد تصبح قريبًا أشجارًا.
رحل الملك تاركًا خلفه شباك ثكلى وملاعب يتيمة، وأرقامًا وألقابًا تتلألأ كمصفوفات ومتواليات ذهبية يصعب الاقتراب منها آجلًا أو عاجلًا، رحلت بقعة الضوء عن مغارة البرازيل، وليس لبلاد البن سوى ليل طويل أرخى سدوله على صدر كل برازيلي عاش وعاصر ربيع بيليه المنتفض دائمًا.
ارقد بسلام في قبرك يا بيليه، فقد بنيت بأرقامك وألقابك وطنًا كرويًا لا يضاهيه وطن آخر، يشهد لك الماركانا فأنت أول من أسقى يبابه وروى عطشه، تشهد لك ألقابك الفاخرة التي رست سفنها على شواطئ العالم دون استثناء، تشهد لك قارة الأمازون فقد كانت تمشي فوق رموش أهدافك، يشهد لك الرقم 10 الذي أصبح بعدك الرقم السحري الذي لا يرتديه إلا من كانت جينات موهبته تسبح في حمضه النووي.
إذا كانت الرأسمالية هي من أبدعت كارل ماركس، والفقر المدقع في صقلية هو الذي أنتج غاليبالدي، والأوتوقراطية الروسية هي من شكلت وعي لينين، فإن اسم بيليه قد أنتجته طبيعة كرة القدم، وهو أيضًا هبة السماء في فنون السعادة والغناء.