دي زيربي.. كيف صنع من فسيخ برايتون شربات؟!

تحديثات مباشرة
Off
تاريخ النشر:
2023-09-29 11:51
المدرب الإيطالي روبرتو دي زيربي المدير الفني لفريق برايتون الإنجليزي (Getty)
محمد العولقي
كاتب رأي
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

لكي تستحوذ على اللعب، وتهيمن هيمنةً إيجابيةً لا لبس فيها، عليك كمدرب أن تراقب "مان تو مان" ما يفعله الإيطالي روبرتو دي زيربي مدرب فريق برايتون الإنجليزي.

لطالما كانت فلسفة دي زيربي مجنونة حتى النخاع، ليس لأنها فلسفة قد تكون مستوحاة من طريقة لعب الإسباني بيب غوارديولا فحسب، لكنها في الواقع فلسفة تبدو بسيطة ومكررة من الظاهر، غير أنها من العمق الباطني فلسفة شديدة التعقيد، بالغة الصعوبة.

ودي زيربي لم يكن يومًا لاعبًا محليًا أو دوليًّا ذا قيمة بالنظر في سجلات مشاركاته لاعبًا لبعض الأندية الإيطالية، من هذا المنطلق لم يكن هناك من يتوقع أن يُحدِث هذا الشاب المغمور تحوّلًا جذريًّا في مسار كرة القدم وهو مدرب، ويشذ على قاعدة تقاليد الكاتيناشيو العتيقة.

ليست هناك قاعدة ثابتة تجعل من اللاعب النجم السوبر مدربًا ناجحًا في مجال الحذق التدريبي، بدليل أن لاعبًا عبقريًّا مثل الأرجنتيني دييغو مارادونا فشل مدربًا، مع بعض الاستثناءات القليلة التي جمعت النقيضين، بينهم دون شك الأسطورة الفرنسية العالمية زين الدين زيدان.

مخطئ تمامًا مَن يعتقد أن أسلوب دي زيربي مع برايتون مجرد نسخ ولصق من طريقة غوارديولا، ففي هذا التوصيف تجَنٍّ على أفكار دي زيربي الثائرة والمشعة مع برايتون.

وإذا كان الكثيرون يرون أن غوارديولا هو مَن يصنع ربيع الكرة الإنجليزية حاليًا في ظل الكرة الجذابة التي يمارسها مع مانشستر سيتي، فإن صرف النظر عما يقدمه دي زيربي مع برايتون هذا الموسم ظلم مبين، وإجحاف كبير بحق فلسفة مدرب يقدم الجديد من مباراة لأخرى.

لست هنا أحاول عقد مقارنة بين الإسباني غوارديولا والإيطالي دي زيربي، لسبب بسيط يتعلق غالبًا بحجم الخبرات المتراكمة التي يتمتع بها غوارديولا، أضِف إلى ذلك بطولاته وألقابه مع برشلونة وبايرن ميونخ ومانشستر سيتي.

ومع ذلك أجدني ومن دون تعصب أضع الإيطالي روبرتو دي زيربي أولًا هذا الموسم، لأنه بالفعل أحدث نقلةً نوعيةً في فلسفة اللعب مع برايتون، لم يكن غوارديولا ليلامس بعض نجاحها مع عناصر مغمورة، لا يمكن مقارنة قيمتها التسويقية بالقيمة التسويقية الفلكية لعناصر مانشستر سيتى.

أتذكر الموسم الماضي- عندما فرض برايتون التعادل الإيجابي مع مانشستر سيتي بثلاثة أهداف لكليهما- أن برايتون ناصب السيتي الشراسة الهجومية، ولعب لاعبوه من دون خوف أو مركب نقص، حتى أنني تصورت أن برايتون مع دي زيربي يضم صفوة لاعبي العالم.

يعتنق دي زيربي أسلوبًا فريدًا في فلسفة التدوير والاستحواذ والتمريرات الهاتفية القصيرة الكثيرة، لكن كل هذا مشدود بخيط فلسفة البناء المتأني من الخلف، ودي زيربي عندما يبدأ رفع الإيقاع من الخلف، فإنه يستهدف استدراج المنافس أولًا لفتح بعض المساحات في العمق، وعندما يفقد الكرة يكون الحل جاهزًا بالعودة إلى تقاليد الضغط العكسي.

وعملية الضغط العكسي التي يفرضها دي زيربي قفلًا ومدارًا عندما يمتلك الخصم الكرة، صعبة تحتاج إلى انضباط في التحرك وإلى وعي تكتيكي، بالإضافة إلى طاقة ذهنية خارقة في قراءة نية الخصم، وبالتالي استخلاص الكرة، ومن ثم العودة التدريجية للبناء من الخلف.

قد يسأل أحدكم: كيف يلعب برايتون كرة جذابة ذات فاعلية هجومية بأسماء تبدو مغمورة، لا يمكن مقارنتها بلاعبي مانشستر سيتى أو مانشستر يونايتد أو ليفربول أو أرسنال أو تشيلسي الذي أنفق هذا الموسم مليار إسترليني؟

الإجابة ببساطة يلخصها أسلوب دي زيربي، فحسب المدرب المهووس بالكرة الاحتفالية شديدة الفاعلية الهجومية، يعد الانضباط التكتيكي أهم بكثير من كل الأسماء، فعندما يعرف كل لاعب دوره داخل الملعب، يصبح اللاعبون مع دي زيربي مثل بيادق يحرّكها كما يشاء على رقعة الشطرنج.

بالتأكيد لم يهبط دي زيربي على ملاعب كرة القدم من السماء، ولم يتعامل مع مهنة التدريب على أنها مجرد عمل، فهو عندما غزا مهنة التدريب في وقت سريع كان في الواقع يتعلم وينمي فراسته وعقليته برصد الكثير من تجارب المدربين العالميين في طليعتهم الأرجنتيني مارسيلو بيلسا.

يمكن القول بمنتهى البساطة إن تراكم معرفة دي زيربي قد أثمر سريعًا، عندما أحدث ما يشبه انقلابًا في الكرة الإيطالية عام 2018، حين غلّف فريق ساسولو بأسلوب الانتشار الجميل، فتمكن من حصد نتائج لم تكن متوقعة، ولولا هفوة مدافع أمام روما لكان ساسولو قد ضمن المشاركة في البطولات الأوروبية في ذلك الوقت.

وعندما طار روبرتو دي زيربي إلى أوكرانيا عام 2021 ليشرف على تدريب شاختار دونيتسك، لم يكن ليحتاج سوى للقليل من الوقت ليضفي بأسلوبه الجميل على الفريق حيوية غير معهودة، حتى أن دينامو كييف العتيد لم يصمد أمام فلسفة دي زيربي في مباراة السوبر، فخسر من شاختار، ليصبح دي زيربي أول مدرب إيطالي يحقق هذا السبق في شرق أوروبا.

وربما كان من حسن حظ نادي برايتون الإنجليزي أن الحرب الروسية الأوكرانية اندلعت، لأن دي زيربي غادر النادي الأوكراني مُكرَهًا، مُوقِّعًا على عقد مع برايتون لمدة أربع سنوات.

وكعادة دي زيربي في مرونة تعامله مع اللاعبين، استطاع في أيام قليلة أن يلقن لاعبي برايتون فلسفة الاستحواذ والضغط العكسي عند فقدان الكرة، وعندما خاض برايتون أول مباراة تحت قيادة دي زيربي الموسم الماضي أمام ليفربول العتيد، نجح الفريق في تقديم مباراة هجومية مثيرة للاهتمام، منحت الفريق تعادلًا بطعم الفوز في الأنفيلد، فليس أي فريق يمكنه تسجيل ثلاثة أهداف كاملة في مرمى ليفربول وتحديدًا في معقله (أنفيلد).

وصحيح أن دي زيربي خلّص برايتون من تقاليد الكرة الإنجليزية الباردة التي تعتمد على الكرات الطويلة كيفما اتفق، إلّا أن دي زيربي احتاج نوعية من لاعبين شبان مغمورين مستعدين للتضحية والاستماتة واستيعاب فلسفة اللعب عالية الطراز.

يركز دي زيربي كثيرًا على الناحيتين البدنية والذهنية في ترجمة أفكاره، ونقلها من سبورة الشرح إلى الملعب مباشرةً، والفريق عندما يتمدد ككتلة واحدة بتناغم واضح في التمرير العرضي القصير، فإنه أيضًا يرتد بنفس السرعة ليؤدي لاعبوه عملية الضغط العكسي بنجاح ساحق.

وقبل كل مباراة يضع دي زيربي كل الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة نصب أعين لاعبيه، لكنه دائمًا يفضّل أن يكون صاحب الفعل وصاحب المبادرة الأولى، لينتقل بعدها الفريق إلى الخطة الثانية التي تستنزف المنافس ذهنيًّا وبدنيًّا.

باختصار شديد لا يمكن لأي مدرب حاليًا أن يصنع من فسيخ برايتون شرباتًا، إلّا إذا كان هذا المدرب هو الإيطالي المتمرد على تقاليد الكاتيناتشو الإيطالي روبرتو دي زيربي.

شارك: