باريس سان جيرمان | تكرار لا يُعلّم الشطار!
كرة القدم -غالبًا- لعبة توازن بين الأفراد والاحتياجات المالية، ولا يمكن أن تكون مشروعًا تجاريًّا بحتًا؛ لأنها لعبة لا تتوقف على القدرات المالية واستقطاب جيش جرار من اللاعبين النجوم دون مراعاة مقادير النسبة والتناسب.
ولعل الدرس الأهم الذي تعلمه السيد ناصر الخليفي رئيس نادي باريس سان جيرمان الفرنسي بعد عشر سنوات عجاف على مستوى دوري أبطال أوروبا، أن شراء أغلى وأحسن النجوم في العالم لا يعني قطعًا جمع كل مقادير الخلطة السحرية التي تؤدي للفوز بأمجد وأعرق البطولات الأوروبية، فهناك تفاصيل صغيرة لا يعرفها إلا من يمتلك قرون استشعار تفرز الغث من السمين.
* قالوها قديمًا: إذا كثر الطباخون؛ فسد المرق، وإن صاحت الديوك وغنّت على ليلاها دون رادع أو ضابط؛ ضاع الفجر، وعندما ينفلت عقال باريس سان جيرمان في دوري الأبطال بتكرار لا يتعلم منه الشطار، يستوجب المصارحة ووضع اليد على العلة، دون الوضع في الحسبان سياسة التبرير.
* وكلا، لست هنا لأمارس جَلدًا بحق رئيس النادي الذي لم يترك نقيصة في النادي الباريسي إلا أحصاها، ولا جديبة إلا رعاها وعراها، و لا عويصة إلا حللها وأفتاها، فأين تكمن مشكلة باريس سان جيرمان مع دوري الأبطال بالضبط؟
قبل سبر أغوار الإجابة عن هذا السؤال الذي يلخص بمنتهى البساطة أسباب تراكم خيبات (بي إس جي) أوروبيًّا، أشير إلى أن العبد لله لا يستعير في تصديه لهذه المهمة الصعبة مفاهيم فرعونية قديمة، كما لا أدعو إلى الخروج عن موروث الملكة بلقيس التي لم تقطع أمرًا حتى يشهد قومها بذلك.
أساس وأس النجاح في ميادين وملاعب كرة القدم الإداري والمدرب واللاعب، هذا الطيف الثلاثي الأبعاد يرتكز على مبدأ الطابع التعاوني، إذ لا بد من ذوبان الفرد مع المجموعة لتحقيق أقصى درجات النجاح، بحيث يصبح الكل في واحد والواحد في الكل.
وبقليل من التركيز والتمحيص في تجارب الأندية الأوروبية الكبيرة ذات الطابع الجماهيري، سنكتشف ببساطة أن خلطة النجاح في دوري أبطال أوروبا تعتمد على (الكاريزما) وشخصية الفريق المستلهمة من ثقافة ذوبان الكل في واحد.
وفي زمن تضاعفت فيه سرعة كرة القدم كثيرًا وأصبحت تُلعب على التفاصيل الصغيرة، لم يعد بمقدور لاعب مثل ليونيل ميسي أن يضيئ كل الدروب المعتمة، تمامًا مثلما أن الاعتقاد بأن الشاب المنتفض كيليان مبابي يمكنه أن يلعب في كل مباراة دور السوبرمان الخارق، خطأ يلوكه الباريسيون بنظام العلكة.
لقد أثبتت الليالي الباريسية غير الملاح أن جلب النجوم وتشكيل (غلاكتيكوس) مبدؤه ومنتهاه أحد عشر لاعبًا، لا يمكن أن يدفع بالمشروع الباريسي بعيدا، فعندما يتكون الفريق من لاعبين متنافرين تجمعهم الفانلة الباريسية شكلًا وتبعدهم الأغراض الشخصية مضمونًا، من الصعوبة بمكان أن يجتاز بطولة مثل دوري الأبطال، وقودها الحماس والقتال وروح الجماعة ودكة بدلاء غنية عليها القيمة.
وعندما خاض باريس سان جيرمان مباراة الإياب في أليانز آرينا أمام بايرن ميونخ الألماني برسم الدور ثمن النهائي دون دكة بدلاء غنية تنفع في اليوم الأسود، بدا لي الفريق الباريسي بخياراته القليلة والمحدودة كساعٍ إلى الهيجاء بغير سلاح.
قبل التشكيك في قوى المدرب كريستوف غالتييه التدريبية و المهنية، حري بنا أن نسأل لماذا فاز بايرن ميونخ ذهابًا وإيابًا؟
الإجابة قطعًا؛ لأنه فريق يمتلك دكة بدلاء باذخة الأسماء، على عكس باريس سان جيرمان الذي يعاني من فقر مزمن في نوعية اللاعب الاحتياطي الذي يصلح لكل حالات الطوارئ، فكيف إذا كان أصحاب البيت هم ضحاياها وقتلاها، و مع ذلك لا يعلمون أيان مجراها ومرساها؟
أقولها بصدق للبريزيدانت ناصر الخليفي: إذا كان باريس سان جيرمان يسير كل موسم بارتباك واضح في دوري أبطال أوروبا (خطوة إلى الأمام وخطوتين للخلف)، ويدمن سياسة اليوم خمر وغدًا أمر، فما الحاجة إلى الإنفاق على نجوم عالميين يقبضون دون أن يحترموا المشروع الباريسي؟
لقد ظهر الفريق الباريسي أمام ثقافة وروح وجماعية لاعبي بايرن ميونخ مفكك الخطوط، مهلهل الصفوف، مقطوع الرجاء، كحال رجل هوى من حالق قمة جبل دون رجال يساندون الموقف، فأخذ يدعو وهو مغمض العينين (يا رب تكون رؤية)، بينما الدماء تغطي جسده من قمة رأسه حتى أخمص قدميه.
في تقديري أن الأوان قد حان لتقويض أركان هذا الفريق المتخم كسلًا والباذخ تنافرًا، والذي يشبه الهر الذي يحكي انتفاخًا صولة الأسد، فأقل ما يمكن للإدارة فعله هو غربلة الفريق وتشكيل فريق تنافسي متوازن لا يعتمد على الأسماء الرنانة المتشبعة، قدر الاعتماد على أسماء وازنة متعطشة وجائعة، تلعب بروح الجماعة وتقاتل لأجل تحقيق حلم مدينة النور (باريس).
ومن دون أن يكون في طرحي قسوة أو استهداف، أعتقد أنه من رابع المستحيلات أن نطلب من مثل هذه العينة والنوعية من اللاعبين الفوز بدوري الأبطال، فليسوا من جنس البطولة، ولا البطولة من جنسهم، ودائمًا رحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
* وإذا كانت إدارة (بي إس جي) قد تخلت بعض الشيء عن إستراتيجية المشروع الذي بدأ قويًا وطموحًا، فإن ارتكاز المشروع بعد ذلك على إستراتيجية التحشيد وشراء نخبة من كبار نجوم العالم بأرقام فلكية، أوغر صدور بعض اللاعبين، فتحول المشروع الباريسي إلى مشروع دعائي تسمع ضجيجه ولا ترى طحينه.
وعندما فتح النادي خزائنه لضم نجوم من عيار: ماورو إيكاردي وسيرخيو راموس ودوناروما وأشرف حكيمي وفينالدوم وبالطبع ليونيل ميسي، كان المشروع يتصدع، بدليل أن غرفة ملابس اللاعبين انقسمت بين فريق يؤيد كيليان مبابي في عدائه السافر مع نيمار، وفريق يناصر نيمار ويحول حبة الخلاف إلى قبة.
أتفق مع من يقول إن المدرب غالتييه ضعيف الشخصية أمام سطوة النجوم، لكن بالمقابل لا يمكن تحميل المدرب وزر ما يحدث من غيبوبة واضحة للفريق، فماذا عن لويس كامبوس المدير الرياضي الذي يدير العرض بطريقة سيئة تجعل الاستغناء عن خدماته مع نهاية الموسم أمرًا مفروغًا منه تمامًا؟
يجب الاعتراف أن سياسة استقطاب النجوم دون دراسة وصرف الرواتب الفلكية دون وعي، سياسة خاطئة لم تؤتِ ثمارها، لذا من الأفضل إعادة تقويم المشهد وغربلة المشروع، وإن لزم الأمر تفكيكه ما دامت النتائج مخيبة وتتكرر بالعرض البطيء موسميًّا.
وفعلًا، رُب ضارّة نافعة، فالفشل الأوروبي المرير إن كان يشير إلى خلل واضح في أدوات المشروع الباريسي، إلا أنه فرصة ذهبية لإعادة ترتيب خريطة الطريق وفق رؤى جديدة تراعي التوازن في الإنفاق حتى تتجنب الإدارة اختراق لوائح اللعب المالي النظيف.
لقد أثبتت الأحداث الباريسية اللاهبة أنه من المناسب عدم تجديد عقد ليونيل ميسي، والتخلص فورًا من صداع نيمار، وإعادة بناء المشروع من جديد ليكون كيليان مبابي نواته، لكن قبل هذا لا بأس من التعاقد مع مدرب كبير قوي الشخصية يعرف كيف يسيطر على غرفة الملابس، دون ذلك سيظل (بي إس جي) يدور في حلقة مفرغة من تكرار لا يعلم الشطار.