انتماء المدرجات.. وعظمة التضحيات
"يوم نصره ليا عيد.. ويوم ما أبطل أشجع.. هأكون ميت أكيد"، دائمًا ما يكون هذا الهتاف في بؤرة شعوري وأشبه بخلفية موسيقية جنائزية وأنا أقرأ قصة جديدة من قصص انتماء ووفاء جماهير المدرجات في كل مكان وزمان.
بدأت مقال الأسبوع الماضي بالحديث عن لقطة إمام المسجد "الكفيف " الذي ظهر في مدرجات استاد "محمد بن زايد" بمدينة أبوظبي الإماراتية وهو يتابع بكل مشاعره وعبر صوت الراديو الذي كان يحمله الوصف التفصيلي لمباراة الأهلي وبيراميدز في كأس السوبر المصري، وهي اللقطة التي خطفت أنظار وعقول وقلوب كل ما تابع تلك المباراة، والتي وصفتها باللقطة السوبر.
وأنهيت مقالي بوعد رصد مشاهد أخرى تعكس وتروي قصة عشق ووفاء المدرجات، ووجدت أن الأمر يفوق كل هذا بل وصل إلى جنون التضحيات، وكيف أن الجماهير خلدت ودونت ملحمة عشقها على لافتات، وأشهرها لافتة جماهير ليفربول "لن تسير وحدك أبدًا".
ولكن لم أكن أتخيل يومًا أن هتاف جماهير الأهلي المصري "يوم ما أبطل أشجع .. هأكون ميت أكيد" عقيدة وليس مجرد هتاف حماسي، فقد مات 72 منهم داخل مدرجات استاد بورسعيد وهم يشجعون فريقهم، قبل أن تتوقف الهتافات؛ لأنهم ماتوا بالفعل.
والآلاف غيرهم كتبت كرة القدم كلمة النهاية في فيلم حياتهم، هناك من مات نتيجة كارثة وقعت داخل الاستاد وربما خارج أسواره بفعل التدافع، وآخرهم المشجعة نورا عاشقة الرجاء المغربي، ومنهم من لم يتحمل قلبه الضعيف قوة فرحة الانتصار، أو مرارة الهزيمة.
ومع الاعتذار للفيلم المصري "أغلى من حياتي" الذي عرض عام 1965 ببطولة الراحلين العظيمين: صلاح ذو الفقار وشادية، فإنه هناك جماهير لعبت دور بطولة هذا الفيلم ولكن على أرض الواقع، وبرهنوا من حبهم لناديهم أغلى من حياتهم.
ومن لا يصدق، أدعوه لقراءة تلك القصة الحقيقية، قبل سنوات كان نادي الإفريقي التونسي العريق يمر بأزمة مالية حادة، حتى إن إدارة النادي اضطرت لفتح باب التبرعات بعدما هدده الاتحاد الدولي للعبة "فيفا" بفرض عقوبة عليه. وقتها هبت وانتفضت جماهير "فريق الشعب" مثلما يلقب النادي الإفريقي في تونس، لدعم ناديها بالأموال لإنقاذه من براثن عقوبات الفيفا التي قد تصل لهبوطه للدرجة الثانية.
واستحوذ مشجعو نادي "باب الجديد" -أحد أبواب المدينة العتيقة بالعاصمة ومركز النادي الإفريقي- على اهتمام وسائل الإعلام عبر العالم، ولكن قصة واحدة اخترقت القلوب، هي قصة المشجع جمال التوجاني الشهير باسم "برناص" الذي أثار مشاعر الكثيرين عندما قرر التخلي عن الأموال المخصصة لعلاجه الكيميائي من مرض السرطان اللعين والمميت ليودعها في صندوق التبرعات الذي خصصه اتحاد كرة القدم بتونس لسداد ديون النادي.
وقف التوجاني -وهو مصور صحفي رياضي وموثق لأرشيف كرة القدم في تونس- في طابور طويل أمام خزينة البنك، وكان يحمل الأموال المخصصة لإجراء التحاليل والفحوصات الكيميائية للعلاج من المرض، ولكن ماذا تعني حياته بينما فريقه الذي يسري حبه في دمه مهدد بالإفلاس والاندثار على حد قوله! يا إلهي لهذه الدرجة يصل العشق!؟ على حد قولي.
وقصة السيدة التي ذهبت لمقر نادي الزمالك وقد باعت قرطها الذهبي الوحيد الذي تملكه من أجل المساهمة في حل أزمة ناديها، وجماهير القادسية الكويتي التي دشنت ملحمة وحملة لإنقاذ ناديها من الإفلاس، والمشجع العراقي الذي أعاد إلى ناديه الزوراء كأس "المثابرة" التي سرقت من خزائنه قبل 23 عامًا بعدما وجد الكأس تباع في إحدى المتاجر وقام بشرائها.
ومن ينسى ما فعلته رابطة الجماهير العاشقة لفريق "بوكا جونيورز" الأرجنتيني التي نظمت حملة تبرعات بعد الحادث المأساوي، الذي تعرض له لاعب الفريق أدريان جينو، وتحملت الجماهير كامل تكاليف علاجه، والآن أكاد أجزم أن مدرجات كرة القدم هي أعظم مسارح الحب والوفاء وعظمة التضحيات.