الرّياضة بين التّنافس الأخلاقي والصّراع غير الأخلاقي
ممّا لا شكّ فيه أنّنا نعاني في العصر الحاضر من أزمات أخلاقيّة مركّبة أفقدت المجتمع في مختلف مجالات عمله وأنشطته الكثير من البراءة ومعاني النزاهة والتلقائيّة، وقد ألقت هذه الأزمات الأخلاقيّة بظلالها على المنافسات الرّياضيّة التي يتوقّع أن تكون مُشبَّعة بالأخلاقيّة التنافسيّة، لتغدو هذه المنافسات حالةً صراعيّةً فاقدةً للمعايير والقيم الأخلاقيّة، بل قد يصل الأمر إلى أن تكون هذه المنافسات الرياضيّة سببًا في اشتعال المعارك غير الأخلاقيّة بين الشعوب والأمم.
ونتيجةً لغياب أخلاقيّات التنافس وما أحدثته بعض المنافسات من معارك إعلاميّة وانقسامات بين الشعوب المختلفة؛ تعالت الأصوات في الآونة الأخيرة مطالبةً بالحدّ من التركيز على الفوز في المسابقات الرياضية وإعادة هذه المسابقات إلى صورتها البسيطة التي تقوم على الترويح البعيد عن أصل المنافسة وروحها، حتى إنّ بعض الباحثين طالبوا بإعادة النظر في الطبيعة التنافسية للرياضة بعد أن تحولت أغلب المنافسات الرياضية إلى صراع مرير وربما إلى تخطي حدود القيم البشرية، واستعانت هذه الجهات المتنافسة بألوان وأساليب هي أبعد ما تكون عن قيم الرياضة الأصيلة ومنها العنف والعدوان والغش وتعاطي المنشطات والتهييج غير الأخلاقي للجماهير، بل وصل الأمر بالرياضة المعاصرة إلى اعتياد العديد من الدول أو الكيانات والأندية والمؤسسات الرياضيّة تقديم رشاوى مباشرة أو غير مباشرة للمسؤولين والرسميين الأمر الذي ينذر بتفشي الفساد في المجال الرياضي، وعندما يتفشى الفساد، فنحن أمام إنذار حقيقي بتقويض نظام الرياضة ذاته على المستويات المحليّة والدوليّة.
لكن هذا التوجه إلى إلغاء الطبيعة التنافسيّة في الرياضة لم يلقَ قبولًا عامًا لا سيما عند المختصين في قضايا الرياضة، فيذهب رائد التربية البدنية، المصري محمد فضالي، إلى أنه مع كل النقد الموجه للمنافسة، فإنّها ما زالت تُعَدّ الأساس المتين الذي تقوم عليه الرياضة والتي تبوأت مكانةً كبرى في حياة الشعوب في عصرنا هذا، فهي تُستخدَم لرفع صحة الأفراد، ولإضفاء الروح المعنوية العالية لهم كما تستغلها بعض الدول من أجل الاعتزاز القومي والفخر بقدرات أبنائها.
والاتجاه المُطالِب بالتخفيف من حدة التركيز على الفوز في المنافسات الرياضية كان من أهم المقومات التي دعت إلى ظهور فكرة الرياضة للجميع، حيث يمارس الناس الرياضة بمختلف أعمارهم وقدراتهم لا بهدف الفوز "كما يحدث الآن في نظام الرياضة التنافسية" وإنما بهدف اللياقة البدنية والصحة والترويح.
ويذهب الدّكتور أمين أنور الخولي في كتابه القيّم "الرياضة والمجتمع" إلى أنّ المنافسة تلعبُ دورًا واضحًا في استثارة الدّفاعية وفي الرياضة أو المسابقات البدنية تلعب المنافسة نفس الدور وفي المدارس تصبح دروس التربية البدنية باهتة ولا تثير حماس التلاميذ إذا ما افتقدت عنصر المنافسة.
ويشيرُ إلى أنّه قد لُوحظ أن التلاميذ يتفاعلون في الدروس التي تتسم بالمنافسة أكثر من غيرها، كما أن تعلّم مهارات التّعاون بوصفها تفاعلًا اجتماعيًّا من الأفضل لها أن تتمّ في جوّ يتّسم بالمنافسة.
وهنا لا بدّ من التأكيد أنّه رغم كلّ ما يمكن توجيهه من نقد إلى المنافسة في الرياضة فإنّها تبقى -شئنا أم أبينا- عصب النشاط الرّياضي، بل جوهر الرياضة وأحد أهم مقوماتها الاجتماعية التي تضمن فاعليتها وبقاءها واستمرارها.
فالحل يكمن -إذن- في تعزيز الحضور الأخلاقي وجعل التربية الأخلاقيّة صنو التربية الرياضيّة وتعزيز الخطاب الأخلاقي المصاحب للأنشطة الرياضيّة التنافسيّة، فيجب أن تُحاط الأنشطة والبرامج الرياضيّة بإطارٍ من القيم الاجتماعية المقبولة مثل التنافس بنبل وشرف ونزاهة، وبذلك نبتعد بالمنافسة عن الصراع ومساوئ ونرد للرياضة وجهها الاجتماعي التنافسي الأصيل.