كيف تسهم الرياضة في ترسيخ الأخلاق الاجتماعيّة؟
في كتابه القيّم "الأخلاق الإسلاميّة وأسسها" يبيّن الدكتور عبد الرحمن حبنّكة أنّ أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية لا يستطيع أفراده أن يعيشوا متفاهمين متعاونين سعداء ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة.
ولو فرضنا احتمالًا أنّه قام مجتمع من المجتمعات على أساس تبادل المنافع المادية فقط من غير أن يكون وراء ذلك غرض أسمى؛ فإنه لا بدّ لسلامة هذا المجتمع من خُلقي الثقة والأمانة على أقل التقادير.
فمكارم الأخلاق ضرورةٌ اجتماعيّة لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات، ومتى فقدت الأخلاق التي هي الوسيط الذي لا بد منه لانسجام الإنسان مع أخيه الإنسان؛ تفكّك أفراد المجتمع وتصارعوا، وتناهبوا مصالحهم، ثم أدى بهم ذلك إلى الانهيار ثم إلى الدمار.
من الممكن أن تتخيل مجتمعًا من المجتمعات انعدمت فيه مكارم الأخلاق.. كيف يكون هذا المجتمع؟!
كيف تكون الثقة بالعلوم والمعارف والأخبار، وضمان الحقوق لولا فضيلة الصدق؟!
كيف يكون التّعايش بين الناس في أمن واستقرار، وكيف يكون التعاون بينهم في العمل ضمن بيئة مشتركة، لولا فضيلة الأمانة؟
كيف تكون أمّة قادرة على إنشاء حضارة مُثلَى لولا فضائل التآخي والتعاون، والمحبة والإيثار؟
كيف تكون جماعة مؤهلة لبناء مجد عظيم لولا فضيلة الشجاعة في رد عدوان المعتدين وظلم الظالمين، ولولا فضائل العدل والرحمة والإحسان والدفع بالتي هي أحسن؟!
كيف يكون الإنسان مؤهلًا لارتقاء مراتب الكمال الإنساني إذا كانت أنانيته مسيطرة عليه، صارفة له عن كل عطاء وتضحية وإيثار؟
لقد دلّت التجارب الإنسانية والأحداث التاريخية أن ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة، ومتناسب معه، وأن انهيار القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لانهيار أخلاقها، ومتناسب معه، فبين القوى المعنوية والأخلاق تناسب طردي دائمًا صاعدين وهابطين.
وذلك لأن الأخلاق الفاضلة في أفراد الأمم والشعوب تمثل المعاقد الثابتة التي تعقد بها الروابط الاجتماعية، ومتى انعدمت هذه المعاقد أو انكسرت في الأفراد لم تجد الروابط الاجتماعية مكانًا تنعقد عليه، ومتى فقدت الروابط الاجتماعية صارت الملايين في الأمة المنحلّة عن بعضها مزودة بقوة الأفراد فقط، لا بقوة الجماعة، بل ربما كانت القوى المبعثرة فيها بأسًا فيما بينها، مضافًا إلى قوة عدوها.
وإذا كانت الأخلاق في أفراد الأمم تمثل معاقد الترابط فيما بينهم، فإن النظم الإسلامية الاجتماعية تمثل الأربطة التي تشد المعاقد إلى المعاقد، فتكون الكتلة البشرية المتماسكة القوية التي لا تهون ولا تستخذي.
ولقد اعتنى الناس منذ القديم بالأخلاق، فتدارسوها محاولين أن يضعوا مقاييس للخير وأخرى للشر، لكنّهم للأسف تفلسفوا ولم يتخلقوا، وفرقٌ بين الاثنين، إذ الفلسفة عمل عقلي تأملي نظريّ مجرّد، أما الأخلاق فهي سلوك عمليّ تنفيذيّ، فالأخلاق العمليّة والاجتماعيّة لا تعتمد قواعد المنطق الجافة، بل هي عمل فطري وإحساس عميق يجده الإنسان في نفسه فيدفعه إلى الاعتقاد في أفضلية عمل فينفذه وسوء عمل آخر فيجتنبه.
ويبيّن لنا الدّكتور أمين الخولي في كتابه الرائع "الرياضة والمجتمع" أنّ الرياضة تأسست عبر تاريخها على أسس من القيم الاجتماعية، ومما لاشكّ فيه أنّ الأساس الأخلاقي في الرياضة من أهم الأسس والدعائم الأخلاقيّة التي استندت إليها الرياضة في دعم مسيرتها الإنسانية، فلقد أوجد الإنسان الرياضة وطبّق عليها معاييره وصبغها بصبغته الإنسانيّة الاجتماعية، فهو الذي وضع قواعدها ونظّمها وبالطبع اقتبس ذلك من معاييره ونظمه وقيمه الاجتماعية.
ولم يكن الفيلسوف والمؤرخ والشاعر الإنجليزي هربرت ريد مبالغًا عندما كتب قائلًا: "أنا أوافق بشدّة على أنّ التربية الرياضية تمدّنا إلى حدّ ما بتهذيب الإدارة والإرادة، كما أني لا آسف على الوقت الذي يخصص للألعاب في مدارسنا، بل إنه غالبًا ما يكون على النقيض الوقت الوحيد الذي يمضي على أحسن وجه؛ لقد أصبحت الأخلاق الرياضية، وروح الفريق تقليدًا يُضاف للتقاليد الاجتماعية الأخرى.
وفي الألعاب الأولمبيّة أرفع مستويات وأطر المنافسة الرياضية على مستوى العالم، ولقد كانت الأخلاق واللّعب النّظيف والروح الرياضية والإخاء والسمو هي الأطر القيمية التي شكّلت الملامح العامة السائدة للفكر الأوروبي وهي في جوهرها قيم تعبّر عن الأخلاق الاجتماعية المقبولة والتي تعتبر ضمن إطار الاحتياجات الاجتماعية التي يمكن للرياضة أن تسهم في تحقيقه إسهامًا كبيرًا.
إنّ الوعي بهذه الحقيقة هو الذي يجعلنا نتعامل مع الرياضة بوصفها حاجة ضرورية لبناء المجتمع أخلاقيًا وقيميًا، وليست مجرد هوايات وألعاب جسديّة عابرة.