عن الرَّشاقة والرَّشقَة
يمارسُ كثيرون الرياضة لأجل الرشاقة، و"الرَّشِيقُ: الْخَفِيفُ الْجِسْمِ" كما يقول ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة"، و"رشُق الشَّخصُ؛ اعتدلت قامتُه وحسُن قَدُّه ولطُف، وفتاة رشيقة، ورشُق الماشي في مِشيته: خفَّ وأسرع، وتمشي برشاقة، وخاطتِ الثوبَ خياطة رشيقة" كما في "معجم اللغة العربيّة المعاصرة".
وأمّا ابن منظور فإنّه يعرّف لنا الرّشيق من الشباب والشّابّات فيقول في "لسان العرب": "والرَّشِيقُ من الغِلمان والجَواري: الخَفِيفُ الحسنُ القَدّ اللَّطِيفةُ، وقد رَشُق، بالضم، رَشاقة. ويقال للغلام والجارية إِذا كانا في اعْتِدال: رَشيقٌ ورَشِيقةٌ، وقد رَشُقا رَشاقة. وناقة رَشِيقة: خفيفة سريعة"
ولقد عبّر كثيرون عن الرّشاقة وجمالها في شعر العرب منهم الشّاعر الأندلسي بن حمديس الأزدي الصقلي الذي يقول في إحدى الأندلسيّات البديعة:
أيا رشاقةَ غُصْنِ البان ما هَصَرَكْ
ويا تألُّفَ نظم الشمل مَنْ نَثَرَكْ
ويا شؤوني وشأني كُلّهُ حَزَنٌ
فُضّي يَواقِيتَ دَمعي واحبِسي دُرَركْ
ما خِلتُ قَلبي وَتَبريحي يُقَلِّبُهُ
إلا جناحَ قطاةٍ في اعتقال شَرَكْ
لا صبرَ عنكِ وكيف الصبر عنكِ وقد
طواكِ عن عينيَ الموجُ الذي نَشَركْ
أمّا الشّاعر العبّاسي خالد الكاتب الذي سمّي بهذا الاسم؛ لأنّه كان كاتبًا للجيش العبّاسي في زمن الخليفة المعتصم؛ فإنّه يعبّر عن جمال الرّشاقة أبلغ تعبير إذ يقول:
قدُّ القَضيبِ حَكى رشاقةَ قدّهِ
والوردُ يحسدُ وَردَهُ في خَدِّهِ
وَالشمسُ جَوهرُ نورِها من نورهِ
والبَدرُ أسعدُ سعدِهِ من سَعدِهِ
خِشفٌ أرقُّ من البهاءِ بَهاؤُهُ
ومن الفِرندِ المحضِ في إفرندِهِ
لو مُكِّنت عيناكَ من وجناتهِ
لرأيتَ وجهَكَ في صفيحةِ خدِّهِ
هذا عن الرشاقة وجمالها، ولكننا اليوم نعيش معنىً جديدًا من الجذر "رشَقَ" ونحن نستمع إلى المراسلين من أرض غزّة وفلسطين المحتلّة عمومًا يتحدثون عن رشقةٍ تلو رشقة، فيصنعون لنا معنىً من الجمال آسرًا، ومغزىً من العزّة ساحرًا.
رَشقَة؛ جمالُ اللّغة الذي يجعل قلوبًا عند الانطلاق ترقصُ طربًا، وقلوبًا عند الوصول تتوقّفُ هلعًا.
لم يكن ابن فارس يعلم وهو يخطّ "معجم مقاييس اللّغة" أنّ قومًا أشدّاء سيجعلوننا نستمع إلى سمفونيّةً تطرب لها الأسماع والأبصار ونحن نقرأ قولَه: "رَشَقَ؛ الرَّاءُ وَالشِّينُ وَالْقَافُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ رَمْيُ الشَّيْءِ بِسَهْمٍ وَمَا أَشْبَهَهُ فِي خِفَّةٍ، فَالرَّشْقُ مَصْدَرُ رَشَقَهُ بِسَهْمٍ رَشْقًا، وَالرِّشْقُ: الْوَجْهُ مِنَ الرَّمْيِ، إِذَا رَمَى الْقَوْمُ جَمِيعُهُمْ"
ولم يكن ابن منظور يعلم وهو يسطر في "لسان العرب" قوله: "يقالُ للقَوْس: ما أَرْشَقَها؛ أَي ما أَخفَّها وأَسرَع سهمَها" أنّنا سنقول هذا عن الصّاروخ الذي تطلقه السّواعد المتوضّئة المباركة.
ولم نكن نعلم أنّنا سنتذوّق قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم لحسّان بن ثابت رضي الله عنه: "اهْجُهم، فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهو أشُدُّ عَلَيْهِمْ مِن رَشْقِ النَّبْلِ"، بشكلٍ مختلفٍ ونحن نرى رشقَ الصّواريخ.
وكذلك صرنا نعلم قيمة الرّشقة أكثر ونحن نستمع إلى وصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم للرّماة الذين أوقفهم على جبل الرماة يوم غزة أحد، وقال يوصيهم ويؤكّد عليهم: "الزَموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل في عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتَل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا وارشقوهم بالنّبل. فإنّ الخيل لا تقدّم على النّبل، إنّا لن نزال غالبين ما مكثتُم مكانكم، اللّهم إني أشهدك عليهم".
فنبيّنا صلى الله عليه وسلّم يقول لأصحاب الرشقات: "إنّا لن نزال غالبين ما مكثتُم مكانكم"، وهكذا كلّ من يرشق عدوّه بسهم أو صاروخٍ فإنّ ثباته مكانه ورسوخه على موقفه ومبدئه هو بوّابة النّصر بإذن الله تعالى.
رَشقة؛ أجملُ الكلمات في زمن البحث عن العزّة والكرامة وإثبات الذّات في هذا العالم الذي لا يحرّكُه من بلادته شيءٌ مثلَ رشقة.