النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ يمارسُ المُصارعة
من لطائف حياة نبيّنا -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه مارَسَ المصارعة التي كانت رياضةً معروفةً عند العرب في جاهليّتهم وبقيت مستمرّةً بعد ذلك، وقد مارسَها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في أكثر من موقفٍ ومع أكثر من شخص.
المصارعة مع ركانة بن يزيد الهاشمي القرشي
أخرج البيهقيّ في "دلائل النبوّة" عن محمد بن عبد الله بن يزيد بن ركانة عن جدّه ركانة بن عبد يزيد وكان من أشد الناس قال: "كنتُ أنا والنبيّ صلّى الله عليه وسلم في غنيمة لأبي طالب نرعاها في أوّل ما رأى؛ إذ قال لي ذات يوم: هل لكَ أن تصارعني؟ فقلتُ له: أنت؟! قال: أنا. فقلتُ: على ماذا؟ قال: على شاةٍ من الغنم، فصارعتُه فصرعَني؛ فأخذ منّي شاةً ثم قال: هل لك في الثانية؟ قلتُ: نعم. فصارعتُه فصرَعني وأخذ مني شاةً، فجعلتُ ألتفتُ هل يراني إنسانًا فقال: مالك؟ قلت: لا يراني بعض الرعاة فيجترئ عليَّ، وأنا في قومي من أشدِّهم.
قال: هل لك في الصّراع الثالثة ولك شاة؟ قلت: نعم، فصارعته؛ فصرعني وأخذ شاة؛ فقعدتُ كئيبًا حزينًا فقال: مالك؟ فقلت: إنّي أرجعُ إلى عبدِ يزيد وقد أُعطيتُ ثلاثةً من غنمه، والثّانية أنّي كنتُ أظنّ أنّني أشدّ قريش؛ فقال: هل لك في الرابعة؟ فقلت: لا، بعد ثلاثٍ، فقال: أمّا قولك في الغنم، فإنّي أردها عليك، فردّها عليَّ، فلم يلبث أن ظهرَ أمرُه، فأتيتُه فأسلمت، وكان مِمّا هداني الله عز وجل أن علمتُ أنّه لم يُصرعني يومئذٍ بقوّته ولم يصرعني إلا بقوّة غيره".
في هذا الحديث مشهدٌ طريفٌ ولطيفٌ لشخصٍ كان يَعُدُّ نفسَه بطل المصارعة في مكّة وما حولها، فيأتيه شابٌّ يشاركه العمل في رعي الغنم، فيطلب منه أن يُصارعه؛ فيسخر منه ومِن قدراته، لكن ما يلبث أن يُهزَم أمامه ثلاث مرّات، ويَخسر ثلاث شياه، كما أنّه يخسرُ شعوره بالتفوّق ويكون همّه ألّا يعرف أهلُ مكّة بخسارته وهزيمته؛ فيأتي التفوّق والانتصار الثّاني من الشّابّ محمّد -صلى الله عليه وسلّم- متمثّلًا في الانتصار الأخلاقيّ والرّوح العالية.
وقد تجلّى هذا الانتصار في أمرين: الأوّل؛ إعادة الشّياه التي خسرها رُكانة إليه حتّى لا يكون في موقف محرج مع سيّده صاحب القطيع، والثّاني؛ كتمُ الخبر وعدم نشره بين النّاس وعدم التباهي به لِئَلّا يُحرِج رُكانة أمام جمهوره وعموم النّاس المُعجَبين بقوّته، وفي هذا من رفعة الذّوق ما تُقصِّر الكلمات عن وصفه.
هذا الموقف كان سببًا مباشرًا في دخول ركانة في الإسلام عقب بلوغه أنّ صاحبه في رعي الغنم محمّد بن عبد الله الذي صرعه في المصارعة قد بُعِثَ نبيًّا.
المصارعة مع أبي الأسد أُسيد بن كَلَدَة بن جُمَح الجمحي
ذكر حاجي خليفة في كتابه "سُلّم الوصول إلى طبقات الفحول": "أبو الأسد أُسيد بن كَلَدَة بن جُمَح الجُمَحي، كان من الأقوياء، بلغَ من شدّته فيما زعموا أنّه كان يضع جِلد البقرةِ تحتَ قدميه فيقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا يُطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعًا ويبقى موضع قدمه.
وقد دعا النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إلى المصارعة وقال: إن صرعتني آمنتُ بك؛ فصرعَه صلّى الله عليه وسلّم مرارًا فلم يؤمن".
هذا نموذج آخر من الأشدّاء الأقوياء بدنيًّا المشهورين بالمصارعة والذين كان يُضرَب بهم المثل في مكّة، فلك أن تتخيّل شخصًا يقف على جلد بقرة ويحاول النّاس سحبها من تحته، وهو ثابت مكانه ويتقطع الجلد وهو لا يتزحزح؛ إنّها إذنْ قوّة بدنيّة هائلة.
وقد دعته غطرسة في القوّة إلى الاستهزاء بقوّة النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وتحدّيه إِنْ غلبه في المصارعة؛ فسيُعلن إسلامه، وقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- التحدّي وصارعه، وصرعَه عدّة مرّات وليست مرّةً واحدةً ومع ذلك بقي أبو الأسد على عنجهيّته واستكباره وعناده وكفره.
لقد مارس النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- المصارعة بروحٍ عاليةٍ مع صاحبه في العمل، ومارسها تحديًا مع المُعانِد المُستكبِر، وفي الحالين كانت ممارسته للمصارعة خدمةً لِفِكرة ورسالة، فإلى جانب بنيان البدن، كان صقل الرّوح حاضرًا، وكانت خدمة الرّسالة أمرًا محوريًّا، هكذا هم العظماء، دومًا تتناغم قوّة أبدانهم مع قوّة أرواحهم وخدمة أفكارهم ورسالاتهم التي يحملونها نورًا للبشريّة التي تُعاني الضّنك والظلم وحالك الظّلمات.