بناء القوّة البدنيّة.. محضُ عادةٍ أم تشريعٌ إسلاميّ؟

تاريخ النشر:
2022-09-07 11:45
-
آخر تعديل:
2022-09-14 01:36
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

تذهب بعض الأديان وبعض الفلسفات إلى ضرورة إهمال الجسد واعتبار ذلك مدخلًا لبناء الرّوح والارتقاء بها؛ فتنادي بتعذيب الجسد تارةً وعدم إعطائه حاجاته تارةً أخرى تحت شعار الارتقاء الرّوحي؛ غير أنّ الإسلام جاء بشريعةٍ التّوازن وقواعد الميزان التي تأبى طغيان مكوّن من مكوّنات الإنسان على الآخر، فلا بدّ أن يُعطَى كلُّ مكوّنٍ من مكوّنات الإنسان روحًا أو جسدًا حقّه من دون وكسٍ ولا شططٍ.

وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- كما في صحيح البخاري: "إنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"، وكذلك أمر الله تعالى الإنسان أن يتنعم بالزّينة والطّيبات، وكلّها من حقوق البدن والجسد على صاحبه.

وقال تعالى في سورة الأعراف في بيانٍ صريحٍ لحقوق الجسد وردٍّ واضحٍ على مَن ذهبوا إلى تعذيب أبدانهم بحجّة الارتقاء بأرواحهم: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ".

قوّة الأبدان تشريعٌ بالوحي

دعا الإسلام إلى أن يكون المؤمن قويًّا في كلّ مجالٍ من مجالات حياته، ومن مجالات القوّة التي جعلها الإسلام تشريعًا ينصّ عليه الوحي، قوّة الجسد والبدن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- في الحديث الصّحيح الذي يرويه مسلم: "المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ، احْرِصْ على ما يَنفعُكَ، واسْتَعنْ باللهِ ولا تَعجزْ".

المقصود بالقوّة هنا كلّ أنواع القوّة ومنها قوّة البدن، ومن وسائل تحصيل قوّة البدن هي الرياضة التي يمارسها المرء بطريقة منهجيّة، وتدريب عمليّ مستمرّ منضبط.

وهذه القوّة البدنيّة كانت ممّا يتفاخر به رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- أمام أعدائه؛ ففي يوم عمرة القضاء في السنة السابعة للهجرة عندما ذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- معتمرًا مع أصحابه بناءً على بنود صلح الحديبية؛ وعندما دخل مكّة، كان المشركون قد اجتمعوا حول الكعبة، وقد تنادَوا فيما بينهم لينظروا إلى محمّدٍ -صلى الله عليه وسلّم- وأصحابه وقد أوهنتهم حمّى يثرب كما يتوقّعون.

وكانت المدينة المنوّرة أرض حمّى بسبب كثرة مياهها ومستنقعاتها وما فيها من حشرات، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- لأصحابه: "رحم الله امرًأ أراهم اليومَ من نفسه قوّة" واضطبع بردائه، أي أدخَل الرّداء من تحت إبطه الأيمن، وكشف منكبه وعضده الأيمن، وهرول في الأشواط الثلاثة الأولى.

إنّ الاضطباع والرَّمَل كان استعراض عضلات، واستعراض قوّة وقد أصبح تشريعًا مستمرًّا باقيًا إلى قيام السّاعة.

فاستعراض العضلات واستعراض قوّة الأبدان تشريعٌ نبويّ مستمرّ إلى قيام السّاعة يمارسه المسلمون في أقدس البقاع وهم يطوفون بالبيت العتيق، وهذا دليل واضح على أنّ الاهتمام بقوّة البدن ليست محض عادةٍ يعتادها المرء في حياته، بل هو تشريعٌ جاء به الوحي ودعا له الإسلام وندب إليه أتباعه.

قوّة الأبدان مُعِينةٌ على حمل الرّسالات السّامية

إنّ حَمَلَة الرّسالات السّامية، المنادين بكرامة الإنسان، الباذلين وقتهم لأجل حريّته، المتحرّكين في هذا الكون لأجل نشر النّور والحقّ في جنباته؛ لا يستغنون عن قوّة البدن في حركتهم الدّائبة لنشر رسالاتهم السّامية وتعميم أفكارهم النّورانيّة.

في السّيرة النبويّة مشاهد عديدة تبيّن أهميّة القوّة البدنيّة وكيف تحلّى بها سيّد الخلق محمّد -صلى الله عليه وسلّم- ومِن هذه المشاهد:

المشهد الأوّل من الهجرة إلى الطّائف

يقول الشّيخ محمّد الغزالي في كتابه "فقه السّيرة": "ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- من مكة إلى الطائف ماشيًا على قدميه، ولم يكن الطريق ممهدًا كما هو الآن، بل وعرًا، ومعروفٌ عنه أنه يقع في منطقةٍ كلّها جبال وهضابٌ ومعنى ذلك أنّ الرّسول -صلى الله عليه وسلم- قد تسلق هذه الجبال في مسيرته تلك".

المشهد الثّاني من غزوة بدر

روى الإمام أحمد بسندٍ صحيحٍ عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كنّا يوم بدر، كلّ ثلاثةٍ على بعير -يتبادلون الركوب على بعير واحد- وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلَي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت عقبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالا له: نحن نمشي عنك -ليظلّ راكبًا- فقال -صلى الله عليه وسلم-: ما أنتما بأقوى منّي على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما".

فالنّبي -صلى الله عليه وسلّم- يقول لصاحبيه: أنا أقوى منكما على المشي، وهو لا يتحدّث هنا عن مشيٍ في نزهة بل مشيٍ شاقّ في مسيرٍ عسكريّ يمتدّ لأكثر من مئةٍ وخمسين كيلو مترًا.

المشهد الثّالث في حفر الخندق بين يدي غزوة الأحزاب

أخرج البخاريّ في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "إنّا يوم الخندق نحفرُ فعرضت كدية -قطعة غليظة صلبة لا تعمل فيها الفأس- شديدة فجاؤوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النّبي -صلى الله عليه وسلم- المعول، فضرب في الكدية، فعاد كثيبا -أي رملًا- أهيل- أي يسيل ولا يتماسك.

في المشاهد الثلاثة تتجلّى القوّة البدنيّة صفةً للنبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وهذا يدعو المسلمين المأمورين بالتّأسي به صلوات ربيّ وسلامه عليه في كلّ شيءٍ أن يتأسوا به في بناء قوّة أبدانهم وعدم إهمال هذا الجانب، وإنّما يكون بناء القوّة البدنيّة عن طريق الرّياضات البدنيّة التي يمارسها المرء بمنهجيّة صحيحة وديمومة دون انقطاع أو إهمال.

شارك: