الضوابط الشرعيّة لممارسة رياضة المبارزة
المبارزة كما بينّا في مقالات سابقة عديدة من الرياضات ذات الشأن الكبير؛ ولها حضور مركزيّ في أنواع الرّياضات في الثقافة الإسلاميّة لأهميتها في القتال والدفاع عن النفس -لا سيما قديمًا- كما أنّها من أهمّ معالم الشجاعة والرجولة لمن أتقنها.
وقد كانت المبارزة سلاح الشجعان في المعارك عند الالتحام بالعدو كما هو معروف؛ لذلك فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على توجيه اللعب نحو قصد نصرة الدين في ميادين الجهاد، ففي صحيح البخاريّ "إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في النّاس فقال: أيّها النّاس، لا تمنّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنّة تحت ظلال السيوف".
ففي هذا الحديث حضّ على الجهاد في سبيل الله تعالى باستعمال السيوف، قال القرطبي: "هو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الوجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد، والإخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدو واستعمال السيوف، والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين".
فهذه الرياضة مندوبة اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولنصرة الدين، وتباح إنْ مارسها الإنسان للهواية حبًا لها وتعلقًا بها واعتيادًا عليها، وإذا كان دور المبارزة فاعلًا جدًا قديمًا في القتال، فلا بأس بتعلّمها اليوم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولما قد تتضمنه من نفع في القتال في حالات الالتحام المباشر مع العدو والحاجة إلى استخدام السّلاح الأبيض من السيوف ونحوها عند الحاجة إلى ذلك.
كما أنّ رياضة المبارزة مفيدة للغاية في تنمية العضلات، لا سيما عضلات الذراعين والرّجلين والأصابع، كما أنها توصف علاجًا لبعض العاهات والتشوهات، واستدارة الكتفين وآلام العمود الفقري.
وتمارس هذه الرياضة اليوم بصورة آمنةٍ في الغالب، إذ يرتدي اللاعبون أقنعة واقية للرأس ولباسًا متينًا، كما أن السّيف المستخدم فيها آمن؛ إذ له مقدّمة أو رأس غير حادٍ في البطولات الرسميّة، ويكفي للظّفر والفوز بنقاط في المبارزة لمس الخصم بمقدمة السيف حيث يسجل الحكام النقاط اعتمادًا على مساعد جهاز الحاسوب، وكل ذلك لضمان سلامة اللاعبين.
غير أنّه من الممكن ممارسة هذه الرياضة خارج البطولات الرسمية، أي على المستوة الشعبي باستخدام السيوف ذات الحد القاطع الجارح، وهنا يجب على المتبارزين وجوبًا شرعيًّا أخذ الحيطة والحذر لتجنب إيذاء أنفسهم، ولا يجوز لهم على الإطلاق تعمّد إصابة بعضهم بعضًا بحد السيف لخطورة ذلك، فإن حدثت إصابة عارضة غير مقصودة فإن ذلك لا يدعو إلى تحريم المبارزة؛ لأن الغالب فيها السلامة من الإصابات.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الأحاديث تنهى عن رفع السلاح في وجه الآخرين، ومن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: "لا يشير أحدكم على أخيه بالسّلاح؛ فإنّه لا يدري لعلّ الشّيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار".
كان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه إلى ما يقيهم من الوقوع في الشر فيما بينهم. وفي هذا الحديث يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من التهاون في الإشارة بالسلاح إلى مسلم؛ فقد يترتب على ذلك بلاء كبير، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح"، وهو كلّ ما أعد للحرب، ويشمل النهي كل ما يقوم مقامه مما يؤدي إلى القتل أو الإيذاء، فلا يشير بالسلاح إلى المسلم ليروعه، أو يخوفه، أو يمزح معه؛ وذلك لأنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، والنّزع: قلع الشيء من مكانه، والمراد: أنه قد يتحرك السلاح من يده، فيقتل أخاه، أو يتسبب له في ضرر، فيقع بسبب ذلك في معصية كبيرة تفضي به إلى أن يعذب في حفرة من حفر النار.
وهذا كله من باب الحرص على سلامة المجتمع وحفظ العلاقات بين الناس، وعدم تخويفهم وترويعهم ولو بالإشارة والتهديد، فكيف بما هو أعلى وأخطر من ذلك؟! وفي الحديث: سد الذرائع بالنهي عما يفضي إلى المحظور، وإن لم يكن في ذاته محظورًا.
وكذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه". فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين عن ترويع المسلم لأخيه المسلم برفع السّلاح كالسيف في وجهه، لما فيه من إخافته، ولأنه قد يصيبه بجرح من جراء إصابة ذلك السلاح له، وقد يكون الجرح قاتلًا مما يكون سببًا في دخول المسلم النار لتسببه في مقتل أخيه.
وهذا يوجب علينا في رياضة المبارزة التحذير من إصابة المسلم، فإن تعمّد أحد المتبارزين جرحَ الآخر فهو آثمٌ إثمًا عظيمًا، فإذا كانت مجرّد الإخافة تجعل الملائكة تلعنه فكيف عند تعمّد الإصابة؟!
ولا بدّ من التّأكيد هنا أنّ الحديثين لا يدلان على حرمة المبارزة والتي تشتمل على الإشارة بالسلاح بين المتبارزين لأن النهي عن الإشارة به إنما هو إذا كان يقصد التخويف والإرعاب أو تعمد إلحاق الضرر بالمسلم، كما بينه العلماء في شروحهم للحديثين.