الصّيدُ رياضةٌ ماتعةٌ تتجلّى فيها تشريعات الرّحمة
الصّيدُ من أكثر الرّياضات المحبّبة إلى النّفس، وهي من اللّهو المباح الذي أقرّه الإسلام، كما أنّها رياضة تجمع معها رياضات عديدة مثل العدو، والرّمي بالنّبل والرماح، والضّرب بالسّيف، وركوب الخيل، كما أنّها تشتمل على استخدام الحيوانات المدرّبة على الصّيد مثل الصّقور والكلاب.
ورياضة الصّيد تفيد صاحبها وفاعلها بتحصيل أكبر قدرٍ من اللّياقة والقوة البدنية وفي الوقت نفسه تنطوي على التدرّب للتركيز العالي. ومن جماليّات الصّيد أنّه يجمع لصاحبه حين القيام به بين تحصيل المتعة وتحصيل الرّزق.
ولأنّ الصّيد قد يغري من يمارسه بالشّعور بالرّغبة في المزيد من التلذذ بقتل الحيوان المستهدف؛ فقد أحاطه الإسلام بتشريعات تمنع من وقوع فاعله ومن يمارسه في العبث بالصيد ومن العبث أن يصل الإنسان إلى مرحلة التلذذ بقتل الحيوانات دون أن يكون له هدف سوى ذلك، ولا يكون له هدف منفعة منه بالأكل أو تحصيل الرزق ببيعه، فمنع الإسلام هذا العبث في أحاديث عديدة منها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه النّسائي وابن حبّان: "مَن قتل عصفورًا عبثًا عجّ إلى الله يوم القيامة، يقول: يا ربّ إن فلانًا قتلني عبثًا ولم يقتلني منفعة".
وكذلك أخرج النّسائيّ والحاكم أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من إنسانٍ يقتلُ عصفورًا فما فوقها بغير حقّها إلا سأله الله عنها يوم القيامة، قيل: يا رسول الله وما حقّها؟ قال: أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمي به".
وفي هذه الأحاديث بيانٌ صريحٌ في أنّ الصّيدَ لمجرّد التلذذ بقتل الحيوانات والاستمتاع بالقدرة العالية على التهديف على الحيوانات ضربٌ من الخطيئة التي تجعل صاحبها محلّ المسائلة يوم القيامة.
وأكثر من ذلك، فإنّ الإسلام وضع التشريعات التي تضبط التعامل مع الحيوان والطير في الذبح بحيث يكون في غاية الرّفق والرّحمة بالحيوان؛ من ذلك ألّا يذبح الحيوان أو الطّير أمام الآخر، ويريحه قبل ذبحه، ويطعمه ويسقيه وألا يشد رجليه بقسوة فتجرح قدميه.
فقد أخرج مسلم في صحيحه عن شداد بن أوس قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليُحدّ أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته".
وأخرج ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول -صلى الله عليه وسلم- أمر أن تُحد الشّفار، وأن تُوارى عن البهائم وقال: "إذا ذبح أحدكم فليجهز".
وقال الإمام المناوي في "فيض القدير": "يسرع بقطع جميع الحلقوم والمريء بسرعة ليكون أوجى وأسهل، فنبّه على أنّه يُندب للذّابح إسراع القطع بقوّة وتحلّل ذهابًا وإيابًا، وأن يتحرّى أسهل الطّرق وأخفّها إيلامًا وأسرعها إزهاقًا ويرفق بالبهيمة ما أمكنه فلا يصرعها ولا يجرها للذّبح بعنف ويحدّ السّكين، ويحرم الذّبح بآلةٍ لا تقطع إلا بشدّة تحامُل الذابح".
وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس أن رجلًا أضجع شاةً وهو يحدّ شفرته، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "أتريد أن تُميتها موتات؟ هلّا أحدَدت شفرتك قبل أن تضجعها؟".
وأخرج عبد الرّزّاق في المصنّف عن الوضين بن عطاء؛ أنّ جزارًا فتح بابًا على شاةٍ ليذبحها فانفلتت منه حتى جاءت النّبي صلى الله عليه وسلم فاتبعها فأخذها يسحبها برجلها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "اصبري لأمر الله، وأنت يا جزّار فسقها سوقًا رفيقًا".
فهذه الأحاديث وغيرها كرّست مبدأ الرّحمة في ممارسة الصّيد، هذه الرحمة التي تتجلى في اتجاهين الأوّل أن يكون صيد الحيوانات له هدف المنفعة منها إلى جانب تحقيق المتعة من ممارسة الصّيد، والثّاني أن يتمّ التعامل مع هذه الحيوانات في أثناء ممارسة الصيد بمنطق الرحمة حتى وهي تُقتل أو تذبح لينتفع بها الإنسان، وهذا من جماليات مقصد الرّحمة وقيمتها في التشريع الإسلامي، الرّحمة التي تصبغ الإنسان في سلوكه مع مخلوقات الله تعالى جميعها.