نهائي الرعب
لو أن أحدهم جاءني بعد نهاية الشوط الأول من نهائي كأس العالم قطر 2022 بين الأرجنتين وفرنسا، وقال لي إن منتخب فرنسا سيعود في الشوط الثاني ويعادل فارق الهدفين، لقلت له: جائز وممكن فهناك متسع من الوقت لتصحيح المسار نفسيًا وتكتيكيًا.
ولو أن نفس الشخص جاءني وأخبرني على بعد 10 دقائق من نهاية المباراة أن الفرنسيين سينفضون عن ديكهم الفصيح غبار الارتباك وسيسجلون هدفين قبل أن يرتد إليّ طرفي، لما تمكنت من مشاهدة سيناريو هذه الدقائق المجنونة، لأنني وقتها سأكون مشغولًا بالبحث في مفكرتي عن أقرب رقم لمستشفى الأمراض العقلية، لكي يأتي أطباؤه و يأخذوا هذا "المتنبي".
لا أحد يعلم كيف تمكن الديناميت الفرنسي المتفجر كليان مبابي من معالجة داء الديوك في الدقائق الـ10 الأخيرة، لكن المؤكد أن ما فعله هذا الصحن الفضائي الطائر من انقلاب كروي أضفى على "نهائي الحلم" المزيد من التشويق والإثارة.
وحتى لو قدر لكل كتاب الحبكات الدرامية الالتقاء معًا لكتابة سيناريو مثير يحبس الأنفاس لمباراة الأرجنتين وفرنسا على استاد لوسيل "التحفة" ويمنع مشاهدته من ذوي القلوب الضعيفة، لما تمكنوا جميعًا من كتابة ربع سيناريو تلك المباراة العاصفة بالتقلبات، والتي لم تبح بكامل أسرارها إلا بعد دراما ركلات الترجيح.
قدر لهذا النهائي الأقرب في هيجانه إلى أعاصير الكاريبي أن ينشف ريق كل مشجع أرجنتيني، ويحرق أعصاب كل محب فرنسي، وقدر له أيضًا نهاية هيتشكوكية ابتسمت لليونيل ميسي في إطلالته المونديالية الأخيرة، وعبست في وجه الصاروخ الفرنسي كليان مبابي الذي كان رجل النهائي إلى جانب ميسي وحارس الأرجنتين إيميليانو مارتينيز.
وعلى ليونيل ميسي تحديدًا أن يكون ممتنًا ومدينًا للاعبين اثنين ساهما في كبح جماح الثورة الكروية الفرنسية في ليلة لوسيل المجنونة، ولعبا الدور الأهم في معانقته أخيرًا لكأس العالم، ولولاهما لقضى أمسية مفزعة ومروعة.
من دون شك لعب الحارس الأرجنتيني العملاق إيميليانو مارتينيز دور البطولة المطلقة في نهاية فيلم الرعب، فقد حرم فرنسا أولًا من حسم المباراة بالضربة القاضية في الدقيقة 120، ثم ظهر ماردًا مخيفًا في ركلات الترجيح، حين حول مرماه إلى خرم إبرة أمام ركلتي كومان وتشواميني.
وبلا أدنى جدال سيعض مهاجم المنتخب الفرنسي كولو مواني أصابع الندم لسنوات طويلة بعد أن فوت على الفرنسيين فرصة قتل راقصي التانغو والتتويج على أنقاض حلم ميسي، لو أنه تعامل بصورة مثالية مع الانفراد الصريح بالمرمى الأرجنتيني شبه المكشوف.
كان أمام مواني خياران: أحلاهما رفع الكرة فوق الحارس الأرجنتيني مارتينيز المندفع منبطحًا، وأسهلهما التمرير إلى يساره، حيث كان مبابي في وضعية مثالية لتسجيل رباعيته التاريخية، ومن ثم الاحتفاظ باللقب كما فعلت إيطاليا في كأسي 1934 و1938، وكررتها البرازيل في كأسي 1958 و1962.
لم يكتفِ الحارس الأرجنتيني بهذا التصدي البارع الذي ربما يكون الأروع والأهم في تاريخ بطولات كأس العالم، لكنه طغى على نجومية ميسي ومبابي في ركلات الترجيح، حين تلاعب بأعصاب الفرنسيين بعمليات استفزازية مباشرة، فأهدر كومان وتشواميني ركلتيهما، و"توتة توتة خلصت الحدوتة" الأرجنتينية بالظفر بكأس العالم عبر بوابة مونديال قطر الأروع في كل شيء على مدار تاريخ بطولات كأس العالم قدميها وحديثها.