منتخب العراق.. فراق ينتهي بالعناق!
لم أكن لأتخيل ما الذي كان سيحدث في ملعب جذع النخلة لو لم يسجل مناف يونس هدف الضربة القاضية في شباك منتخب عمان، في الرمق الأخير من الوقت الإضافي الثاني لنهائي مونديال الخليج.
لم أكن في وقتها على استعداد للدخول في متاهة حسابات ركلات الترجيح، وما سيترتب على نتيجتها في مدرجات مشتعلة تحولت إلى ما يشبه حلبة ملاكمة، كل شيء في محيطها يحبس الأنفاس من فرط الإثارة التي لا تطاق.
رفض وعيي مجرد تصور ما سيرافق التتويج من أحداث هتشكوكية، ودعوت الله في سري أن تنتهي المباراة على حسب ما تشتهيه سفن بلاد الرافدين، ففي تلك اللحظة وضعت يدي على قلبي تخوفًا من مأساة في المدرجات العراقية قد تفوق في حدتها وتشاحنها وخسائرها ما حدث للبرازيليين في نهائي مونديال 1950، حين غرقت البلاد في أحزان خسارة اللقب، فتحول استاد (ماراكانا) إلى سرادق عزاء حمل اسم (ماراكانازيو) إلى يومنا هذا.
لم أكن لأتخيل (ماراكانازيو) عراقية جديدة على شط بحر العرب، وهو أمر قدر الله فيه ولطف، وبهذا الصدد يمكن توجيه الشكر والتقدير للاعب مناف يونس الذي خلص العراقيين من مأساة إنسانية مخيفة كانت تلوح في الأفق حتى الثواني الأخيرة من دراما الوقت الإضافي الثاني.
لم يكن أمام المنتخب العراقي خيار آخر سوى الفوز على منتخب سلطنة عمان في النهائي الدراماتيكي؛ لأن ما حدث قبل ساعات على انطلاقة المباراة النهائية من تزاحم وتدافق واختناق بشري حول بوابات وأسوار الملعب كان مجرد مقدمة خسائر في الأرواح، سترتفع تكلفتها في حال انحرفت بوصلة اللقب من شمال الخليج إلى جنوبه.
الواقع أنه ما كان لهذا النهائي الذي كان يغلي على جمر الترقب والانتظار أن يرى نور النهاية العراقية السعيدة لولا تضحيات المنتخب العماني وموافقته على خوض النهائي في أجواء مكهربة وأمام جمهور عراقي جائع ومتعطش، وكأن هذا الجمهور خرج من السجن شم الأنوف كما تخرج الأسود من غابها على حد تعبير الشاعر اليمني النابغة عبد الله البردوني.
نعم، قلَّما تجد شعبًا مجنونًا ومهووسا بكرة القدم مثل الشعب العراقي الذي تدافعت منه مئات الآلاف نحو ملعب المباراة قبل يوم كامل على موعد النهائي، لم ترهبهم الزحمة ولم يفزعهم الموت المتربص بهم، ولم ينل الاختناق البشري المخيف من عزمهم، ففي تلك اللحظة كان هذا الجمهور، وعن قناعة، يمر على شيفرات السيوف ويأتي المنية من بابها.
الذين لاموا الاتحاد العماني على تفريطه في المساحة المخصصة للجمهور العماني، ينظرون للأمر على أنه تنازل ومجاملة لأهل الدار على حساب حقهم المعنوي، وهذا صحيح، لكن ماذا عن الظروف الإنسانية المعقدة التي فرضت نفسها على الموقف ودفعت الاتحاد العماني للتعامل بمرونة وحكمة مع هفوات التنظيم؟
في تقديري أن الاتحاد العماني -وهو يتعرض تقريبًا لنفس ما تعرض له الوفد الكويتي في الافتتاح- آثر سلامة العراقيين في المقام الأول مفضلًا التضحية بنصيبه وحقوقه، حتى لا يقع الفأس في الرأس ويتحول العرس الخليجي في مشهده الأخير من أفراح إلى أتراح.
لقد حبست السماء دموعها عن العراقيين لأكثر من 42 عامًا، ولم تكن أنشودة المطر لمبدعها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب إلا صدى لسنوات عجاف لم تمنح الكرة العراقية (المتصحرة) خليجيًا ولو حبة رمان واحدة.
سيبقى يوم التاسع عشر من يناير محفورًا في ذاكرة البصرة، مثل شامة على خد العراق، ففي هذا اليوم فتحت السماء أمطارها الحبيسة، وبكت سيولًا من أفراح وضعت حدًا فاصلًا لأتراح كروية طويلة، انتهت بعناق حار بين العراقيين ومحيطهم الذي توجهم أبطالًا لخليجي 25.
قلت عن هذا النهائي، الذي دارت أحداثه على صفيح البصرة الساخن، إنه سطو غير مسلح (هولد أب)، لكنه سطو مثير في تقلبات طقسه، أسهم في رفع منسوب لعبة الكراسي الموسيقية إلى أن فاز العراق بهدف قاتل في توقيت متأخر يصعب التعويض فيه.
محظوظ جدًا المنتخب العراقي في هذه البطولة الاستثنائية لأسباب كثيرة، من بينها أن العوامل النفسية تغلبت على كل الإمكانات البشرية والفنية عند الآخرين.
هل صنع العراقيون على استاد جذع النخلة معجزة حقيقية كمعجزة حدائق بابل المعلقة؟
الإجابة قطعًا لا، لأنني كفني يتكئ على خبرة لا بأس بها، مقتنع تمامًا أن لا مستحيل في كرة القدم، ولا معجزات على المستطيل الأخضر، فكرة القدم لعبة تعطي من يخلص لها، ومن يستفيد من العوامل المتاحة التي قد تشكل دافعًا وحافزًا معنويًا، لكن يبقى الحسم معلقًا بأقدام ورؤوس وتركيز اللاعبين.
انحازت الساحرة المستديرة هذه المرة للمنتخب العراقي، وجنبته عواقب اللعب بالنار، وما كان للكرة أن تكافئ المنتخب العراقي بهذا السيناريو المجنون لولا أن منتخب أسود الرافدين كان الأجدر والأكثر رغبة وعطاء وموهبة على مدار المباريات الخمس.
ومع أن العوامل النفسية، بكل عتادها وحمولتها، كانت السبب المباشر في ثبات اللاعبين انفعاليًا في أحلك الظروف أمام عمان بالذات، إلا أنه في النهائي احتاج المنتخب العراقي إلى الكثير من الحظ والتوفيق للنفاذ بجلده من دراما رعب كان في غنى عنها.
علاقة الشعب العراقي بكرة القدم علاقة غرامية من نوع قاتل، واليوم، وبعد درس البصرة، أسجل شهادتي عن قناعة تامة ليطير بها هدهد سبأ كنبأ يقين يضعها في واجهة التاريخ، حيث حدائق بابل المعلقة والمذهبة تحكي حضارة أرض الرافدين:
لا يضاهي تأثير أمر ما مهما بلغ شأنه في معنويات شعب أكثر من تأثير كرة القدم في الشعب العراقي.
لست هنا في وارد الانشغال عن التأثير الجماهيري الكبير في معنويات اللاعبين العراقيين بالتنقيب عن الأسباب التكتيكية التي خذلت منتخب عمان في المليمترات الأخيرة من النهائي العاصف بالتقلبات الرهيبة.
ولم تعد الآن الحاجة ماسة لقراءة خريطة النهائي فنيًا بعد أن التهمت الأسود الجائعة كل موائد هذه النسخة الفريدة من نوعها، فعندما يحتل هدير الجمهور العراقي كل تلافيف الذاكرة يصبح الحديث عن الأمور الفنية والتكتيكية خروجًا عن نص الواقع.
وغريب أمر هذه البطولة الاستثنائية التي عادت للعراق مجددًا بعد فراق دام 34 عامًا -أي منذ تتويج رفاق الهداف الراحل أحمد راضي بخليجي 9 في الرياض- فقد عبست طوال 8 نسخ في وجوه أجيال أكثر موهبة من هذا الجيل المتوج بخليجي 25، بينهم جيل السفاح يونس محمود، لم تكن لحظتها قطرة الماء قد فاضت لتملأ الفنجان العراقي عن بكرة أبيه.
بالتأكيد، لا أقلل من موهبة وعطاء رفاق الفنان إبراهيم بايش، الذي يذكرني كثيرًا بالنحلة العراقية حبيب جعفر، فليس ذنب هذا الجيل أن العملاقين السعودي والقطري دفعا بالصف الثاني، تمامًا مثلما أنه من غير المعقول أن نبهت هذا التتويج لمجرد أن لاعب منتخب عمان جميل اليحمدي أفلت ركلة جزاء، الله وحده يعلم ما كانت ستؤول إليه النتيجة النهائية لو وفق اليحمدي وسجلها.
لا جدال في أن الأرض العراقية لعبت مع أسودها، ولا شك أن روح الجمهور العراقي وحماس اللاعبين كانا في مستوى القدرة على تحقيق حلم الفوز بكأس الخليج.
أما حكاية المايسترو إبراهيم بايش مع التألق في هذه البطولة بصورة غطت على جميع اللاعبين الخليجيين، فهي حكاية جميلة تفسر لنا وتوضح الفرق بين لاعب يساوي الملايين وآخر عالة على فريقه لا يساوي في البورصة سوى الملاليم.