محمد النني.. الريفي الأسمر رفع سقف الطموح!
الأقسى من الكارثة أن تتكرس بصيغةٍ بالغةٍ لدرجة أن يصبح المشهد مألوفًا لأن: "التعوّد على الهول.. هول أكبر" حسب الشاعر والكاتب اللبناني الراحل أنسي الحاج (1937-2014).
على كل الأحوال، بعيدًا عن النتائج العسكرية والسياسية التي لا بد أن تتجلى عاجلًا أم آجلاً، كنتائج منطقية للحرب الدائرة رحاها على الأرض الفلسطينية، لا بد من القول إن آلاف الضحايا التي انطفأت، لن تذهب دماؤها هدرًا، فعلى الأقل تكشّف للعالم كلّه الوجه الحقيقي للظالم.
لنسأل الناجين مثلًا وحينها سيقولون لكنا بطريقة تفوق أعتى القصائد شعرية بجمالها رغم قسوتها: "عدو لا يعرف إلّا القتل والغدر!" أو لنتوجه للمراسل البطل وائل الدحدوح كي يجيب بمنتهى الثبات والعزيمة لحظة تلقيه خبر استشهاد زوجته وابنته وابنه: "ينتقمون منّا بالأطفال معليش" هذه المفردة الأخيرة الدارجة تحمل بين ثنايا حروفها كلّ معطيات الشجاعة، والثبات، والرجولة. وكما المرابطة في الميدان وعلى الجبهات شرف، هناك أيضًا مَن صدق بوعده في ملاحم وساحات أخرى! الطبيب والإعلامي المصري باسم يوسف وحده كان بمثابة مؤسسة متكاملة عندما لقّن بيرس مورغان درسًا في كيفية التأثير في الرأي العام العالمي وتقلب السحر على الساحر بأربعين دقيقة حققت أعلى نسبة مشاهدة في تاريخ برنامج الصحفي ومقّدم البرامج البريطاني الشهير، وأثارت حفيظة ضيوفه الداعمين لإسرائيل! وبين هذا وذاك ما زال اللاعب الفرنسي ذو الأصول الجزائرية كريم بنزيما يكابد عناء وقوفه مع الحق، في بلادٍ تدعم الظلم، وما زالت تلاحقه أصواتٌ تطالب بسحب الجنسية الفرنسية منه.
في هذه الأثناء، انتقل -حسب وصف متابعين كثر- لقب "فخر العرب" الذي يحمله صلاح إلى مواطنه محمد النني ذاك الشاب الأسمر الذي يتباهى بقناعاته ومعتقداته وكان أوّل من رجّح الكفة ولجّم أقوى دوري في العالم وهو الدوري الإنجليزي وأقفل عليه الأبواب كي لا يتضامن مع طرفٍ دون آخر، خاصةً أن أحد زملائه في نادي أرسنال قد رفع علم إسرائيل على حساباته الافتراضية؛ فجاءه الرد السريع من النني عندما رفع علم فلسطين وأعرب عن تضامنه الصريح مع غزّة المكلومة وأتبعه بتلاوة آيات من الذِكر الحكيم.
وفي حياة النني ما يكفي ليكون قدوةً، ويستحق حقيقةً هذا اللقب الكروي انطلاقًا من مواقفه الإنسانية ومنجزه المهني. اللاعب وُلِد في محافظة الغربية المصرية والتحق بالنادي الأهلي المصري منذ كان عمره 8 أعوام، وحين بلغ السادسة عشرة تخلى عنه المدرّب آنذاك بذريعة أنه غير صالح للاستمرار في "القلعة الحمراء"! ولك أن تتخيّل حينها المشهد: فتى يافع في مقتبل الشغف والحماس يخبر والده عن طرده من أبرز نادٍ مصري بعد أن ترك الأب كلّ الدنيا وجلس ليستثمر في ابنه، وكيف انهمرت دموعه متمنيًا لابنه أن يختم مسيرته في صفوف "المارد الأحمر"!
انتقل النني بعدها إلى نادي المقاولين العرب، وكان أكثر شهرةً من صلاح الذي كان يلعب لنفس النادي آنذاك، وقد صاغ النني حينها مجدًا من ألق، وقدّم مستويات مشرّفة، وتوهّج خاصةً في المباريات الحاسمة وحقق أهدافًا بالغة الأثر، لدرجة أن "المحروسة" صنعت له إعلانًا خاصًا بعنوان "النني رفع سقف الطموح" ولاحقًا وفي كلّ وقت تراجعت فيه مستوياته خاصة لدى مشاركاته مع منتخب بلاده، كانت شعبيته هي التي تدعمه وتنقذه، وتعيده إلى طريق الصواب! هكذا، توجهت إليه أنظار الكشّافين في نادي بازل السويسرى وتعاقدوا معه في يوم سعده، أي الأوّل من مايو/أيّار عام 2013؛ ليلتحق بالنادي الأوربي إلى جانب مواطنه محمد صلاح!
بدأ النني التأقلم سريعًا في بازل ودخل التشكيلة الأساسية لفريقه ليصبح عنصرًا فاعلًا في تشكيلة الفريق خلال ثلاثة مواسم متتالية حصل فيها على جائزة أفضل ممرر كرات في الدوري الأوروبي. حتى، قرر نادي أرسنال استقدامه، خاصة أنه يناهز بطموحه حدود السماء! هناك وسّع لنفسه مطرحًا مترفًا بالأهمية بشكل تصاعدي وقد حاز احترام الجمهور والصحافة معًا بمنطق تدريجي، خاصةً بعد هدفه الأسطوري في مرمى برشلونة في إياب الدوري الـ 16 من دوري أبطال أوروبا من العام نفسه الذي انتقل فيه إلى صفوف النادي الإنجليزي!
المسيرة المحفوفة بدراما التباينات بين الصعود والنزول والمفاجآت توّجها النجم الريفي الأسمر بإنجازين بارزين هذا العام، فعلى المستوى المهني افتتح أكاديمية في بلاده لتعليم أصول كرة القدم، وعلى صعيد الأخلاق والإنسانية كان حائط صدّ مدهشًا للقضية الفلسطينية في أقوى دوري في العالم!