ما السبيل إلى لحاق دورياتنا بنظيراتها الأوروبية؟
مع توقف النشاط الكروي في الدوريات المحلية وعدم وجود منافسات وبطولات عالمية، كما هي العادة، خلال "السنوات الفردية"، أصبحت أخبار انتقال اللاعبين وصفقات البيع والشراء، هذه الأيام، حديث الساعة المشوق والمثير؛ إذ يتوقع متابعو هذا "الميركاتو" -ومعناه "السوق" باللغة الإيطالية- أن يكون رائجًا جدًا هذا الصيف.
وتجمع التوقعات على أن يفوق إجمالي إنفاق الأندية على انتقالات اللاعبين في العالم هذا العام إجمالي الإنفاق في العام الماضي، كما أنها تأمل في أن يعادل، إن لم يتجاوز، الرقم القياسي الذي تحقق في ميركاتو عام 2019 قبل تفشي جائحة فيروس كورونا وما تبعته من أزمة عالمية شاملة والذي بلغ 7.35 مليارات دولار.
وفي هذا الصدد، تشير أرقام تقرير الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" إلى أن إجمالي الإنفاق في سوق الانتقالات الدولية في عام 2022 قارب 6.5 مليارات دولار، بزيادة بلغت نسبتها 33.5 في المئة مقارنةً بإجمالي الإنفاق في عام 2021.
وكان للدوريات الأوروبية الخمسة الكبرى؛ الإنجليزية والإيطالية والألمانية والإسبانية والفرنسية، النصيب الأكبر من الإنفاق -الذي ذكرناه لعام 2022- قدر حجمه بنحو 4.55 مليارات يورو، وكان للأندية الإنجليزية منها نصيب الأسد حيث أنفقت قرابة 2.3 مليار يورو؛ أي ما يفوق بقليل نصف ما أنفقته الدوريات الأوروبية الأربعة الكبرى الأخرى الإيطالية والألمانية والإسبانية والفرنسية مجتمعةً.
تقرير الاتحاد الدولي لكرة القدم السنوي للانتقالات الدولية لعام 2022 كشف أيضًا أن عمليات الانتقال بلغت 71002 صفقة في فئتي المحترفين والهواة من الرجال والسيدات، وأن هذه الصفقات الدولية شملت 4770 ناديًا من 182 اتحادًا مختلفاً في العالم، كما أن إجمالي اللاعبين المنتقلين بلغ 17291 لاعبًا يمثلون 183 جنسيةً مختلفةً.
أرقام كبيرة ومبالغ ضخمة لكن نصيب الدوريات العربية منها ضئيل، باستثناء بعض الدوريات الخليجية والدوري المغربي وإن كان بمستوى أقل.
فما المانع من لحاق دورياتنا بما بلغته نظيراتها الأوروبية، وما السبيل إلى ذلك؟
ما تشهده خريطة كرة القدم الأوروبية وخاصةً أنديتها، وما حدث من "ثورة" في عالم كرة القدم عامةً يعود بالأساس إلى جرأة القضاء الأوروبي الذي كان سباقًا في تعديل القوانين المتعلقة بانتقال اللاعبين بين الأندية الأوروبية، وبشكل خاص أندية دوريات البلدان الأوروبية الأعضاء فيما يعرف حاليًا بالاتحاد الأوروبي.
قضيتان هما من أشهر القضايا وأبرزها، "المؤسسة" التي عبدت الطريق إلى "تحرير" انتقال اللاعبين. قضية اللاعب الإنجليزي جورج ويستهام التي وضعت عام 1959 لبنة نظام يسمح للاعبين مغادرة أنديتهم مجانًا لدى انتهاء عقودهم. ثم وهي الأهم على الإطلاق، قضية اللاعب البلجيكي جان مارك بوسمان والتي أصدرت محكمة العدل الأوروبية قرارها الشهير المسمى "قرار بوسمان".
صدر قرار بوسمان في شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 1995، بعد خمس سنوات من معركة قضائية من أشرس ما عرفته المحاكم الأوروبية، وذلك عندما رفع اللاعب البلجيكي إلى محكمة العدل الأوروبية شكوى ضد كل من ناديه "آر سي لياج" والاتحاد البلجيكي لكرة القدم والاتحاد الأوروبي لكرة القدم "يويفا".
أراد بوسمان، لاعب خط الوسط البلجيكي، الانتقال إلى نادي "دانكيرك" الفرنسي، إلا أن النادي البلجيكي طالب النادي الفرنسي برسوم عجز عن توفيرها، فلم يتم التوصل إلى اتفاق حول انتقال بوسمان الذي انتهت مدة عقده، بل وألغى النادي البلجيكي عقد لاعبه وخفض كثيرًا من راتبه. وكانت القوانين الأوروبية تنص حينها على أنه لا يمكن لأي لاعب الانتقال من نادٍ إلى ناد آخر إلا بموافقة ناديه وبحصول ناديه على تعويض مالي، حتى وإن كان عقده مع هذا النادي قد انتهى.
استندت محكمة العدل الأوروبية إلى معاهدة روما ثم إلى معاهدة ماستريخت، وهما معاهدتان مؤسستان لما بات يعرف بالاتحاد الأوروبي وما نتج عنهما من مكاسب للمواطن الأوروبي ومن بينها حرية الانتقال وحرية العمل في كل البلدان الأعضاء، وأصدرت حكمًا لصالح بوسمان يقضي بجواز انتقال اللاعبين المنتهية عقودهم بحرية ومن دون موافقة النادي، كما يقضي بحرية انتقال اللاعب المنتمي للاتحاد الأوروبي داخل فضاء دول الاتحاد الأوروبي واعتباره "لاعبًا محليًا".
وهكذا أصبحت الأندية الأوروبية تتمتع بإمكانية إشراك من تشاء من لاعبي بلدان الاتحاد الأوروبي، غير أنها منعت من فرض رسوم انتقال على اللاعبين المنتهية عقودهم. كما بات مسموحًا للاعبين بالتفاوض بحرية مع الأندية التي يرغبون في الانضمام إليها لدى نهاية عقودهم، وذلك من دون العودة إلى أنديتهم عندما لم يتبق سوى ستة أشهر أو أقل في عقودهم.
وقد استفادت العديد من الدوريات الأوروبية وأنديتها وخاصةً الثرية منها بهذه "الثورة" في عالم كرة القدم. كما استفاد اللاعبون ماليًا إذ ارتفعت أجورهم وتضخمت مبالغ صفقات الانتقالات وارتفعت العائدات المتأتية عن الإعلانات والنقل التلفزي وغيرها.
في المقابل، هناك أيضًا بعض الآثار السلبية منها ما لحقت باللاعبين المحليين، ومنها انخفاض مستوى بعض الدوريات مثل الدوري الفرنسي والدوري الإيطالي؛ بسبب استقطاب الدوريات الثرية لأبرز اللاعبين بمبالغ كبيرة، فيما باتت أندية عديدة تحت ديون مرتفعة أثقلت كاهلها.
إن النظر والتمحيص في ما تحقق من تغيير في مسار "الميركاتو "، منذ صدور قرار بوسمان وما تلاه من قوانين أوروبية، إيجابيًا وسلبيًا، وإعداد ووضع دراسات وسن قوانين ونظم على المستوى العربي قد تفيد في تطوير كرتنا العربية وفتح آفاق عربية أرحب في شتى المجالات عبر البدء بالسماح للاعب العربي بالانتقال إلى الأندية العربية واعتباره لاعبًا محليًا، وبتمكين الأندية العربية بإشراك عدد غير محدود من اللاعبين العرب.