لوغريت: يا رايح كثِّر بالفضائح..!
المشكلة التي افتعلها نويل لوغريت، رئيس الاتحاد الفرنسي لكرة القدم، على خلفية الإساءات التي وجهها في لحظة طيش للأسطورة زين الدين زيدان لن تتوقف عند حد عزله وإيقافه، ونقل صلاحياته لنائبه.
مشكلة لوغريت التي أوقع نفسه بها في منتهى السذاجة ومن دون مقدمات لم تعد فقط مع الأيقونة التي لا تمس (زيدان)، فكلامه الذي يطفح بعاطفة عنصرية معيبة أدى لانتقال المشكلة من مقر الاتحاد الفرنسي إلى قصر الإليزيه، حيث يمارس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهامه السياسية.
وما دامت الحبة خرجت من فم لوغريت بحجم القبة وتسببت في اندلاع حريق عنصري في مجتمع فرنسي ملون يصنع ربيعه المهاجرون وأبناء الضواحي، فستصبح الرسائل الكاريكاتورية التي وجهها لوغريت لأعظم لاعب فرنسي مفخخة، ولا تحتمل عزل الرجل أو إيقافه فقط، دون فتح ملفات أخرى، يشيب ريش الغراب لهول فسادها.
مشكلة لوغريت مع زيدان خاصة وفرنسا عامة لم تعد مجرد (زلة لسان)، يمكن إدراجها تحت سقف أنها مجرد وجهة نظر لا تفسد للود القضية، مادام لوغريت نفسه يتلكأ في تقديم مبررات واضحة، تشفي غليل محبي وعشاق الزين (زيدان) حول العالم.
وحتى الآن لم أفهم و لم أستوعب الأبعاد الفلسفية التي استدعت لوغريت اقحام زيدان في شأن اتحادي خاص، لا ناقة لزيدان فيه و لا جمل، فتجديد عقد مدرب الديوك ديدييه ديشامب من عدمه شأن اتحادي بحت، فلماذا أقحم لوغريت زيدان في الأمر، طالما طارت طيور ديشامب بأرزاقها إلى ما بعد مونديال 2026؟
وإذا كان لوغريت قد أثار حول شخصيته العنصرية الكثير من الغبار بتصريحاته الحادة والمسيئة للرمز الفرنسي زيدان، فإن الرجل ما كان ليمارس هذه الحماقة بكل وضوح لولا أن في نفسه الكثير من (حتى) تجاه المهاجرين والملونين من أبناء الضواحي.
بدأ لوغريت -و قد دخل مرحلة أرذل العمر دون أن يسأم تكاليف الحياة- وكأنه (دبور) زنّ على خراب عشه، فالرجل عندما تمادى في إهانة زيدان والاستهزاء بسجله التدريبي لم يكن يعلم أن كلامه الخالي من اللباقة والدبلوماسية سيصل إلى قصر الإليزيه، ثم يتحول إلى رد فعل حكومي عنيف على لسان وزيرة الرياضة التي أدانت تصريحات لوغريت المتعجرفة البعيدة عن الرزانة، ووصفتها بالتصريحات الغبية غير المقبولة.
وعندما هربت الدماء من وجه لوغريت بفعل ردود الأفعال الصاخبة والمتسارعة من مختلف الجهات الفرنسية و غير الفرنسية، سارع إلى الحفاظ على ما تبقى من ماء وجهه ببيان اعتذار فسفوري، لم تخف رماده النار المستعرة التي راحت تتأجج شعبيًا، وتسري في فرنسا كلها سريان النار في الهشيم.
الندم المسرحي الذي أبداه لوغريت بعد خراب مالطا لم يحمل سوى عذر أقبح من ذنب، لأن الرجل العجوز اعتذر على مضض تحت ضغط الحاجة للبقاء رئيسًا للاتحاد الفرنسي لولاية جديدة، لكنه لم يكن يتصور أن لسانه (المتبري منه) نقله من خانة الأبهة والفخامة إلى مستنقع الوحل، بعد أن أصبح علنًا أكثر فرنسي منبوذ على ظهر البسيطة.
وحتى عندما ظن لوغريت أن تصريحاته ضد زيدان ستجد آذانًا مصغية من ذوي النزعة اليمينية المتطرفة الذين يخلطون زيت السياسة بماء العنصرية، لم يكن يتصور أن يخرج الكتكوت كيليان مبابي من بيضة إجازته صائحًا في وجه لوغريت بلسان فصيح: "كفى أيها (البريزيدانت)، فزيدان هو فرنسا و أسطورتها".
الأغرب من الإبل أن ديدييه ديشامب صمت طويلًا، واتخذ إزاء تصريحات لوغريت المعيبة في حق زميله وضعية أذن من طين وأخرى من عجين، مفضلا الانزواء بعيدًا، بعد أن نال مراده بتجديد عقده لأربع سنوات قادمة، لكنه عندما اقتنع أن لوغريت بات من الماضي خرج يعاين الأضرار مؤيدًا عزل لوغريت، ومبديًا تعاطفًا متأخرًا في حق زيدان، فخر الكرة الفرنسية.
في تقديري أن لوغريت لم يعد بحاجة ليتساءل عن السر الخفي الذي يدفع المهاجرين وأبناء الضواحي من استقبال نشيد (لامارسيز) بصفير الاستهجان والازدراء، كلما واجه المنتخب الفرنسي منتخبًا من شمال أفريقيا.
لقد انشغل لوغريت لأكثر من ثماني سنوات في دراسة الأسباب الذاتية التي تستدعي إهانة النشيد الوطني الفرنسي، لكنه أبدا لم يفتش في بلد العدالة والحريات عن التصرفات الاستفزازية التي يتعرض لها الملونون من مزدوجي الجنسية، وتأجج مشاعرهم في المدرجات.
وكان يمكن غض الطرف عن الطريقة غير الأخلاقية التي أبعد بها المهاجم كريم بنزيما -حامل الكرة الذهبية لهذا العام- عن نهائيات كأس العالم بقطر، و تجاوز اعترافات الطبيب الذي قال إنه كان ينفذ تصفية جسدية مع بنزيما، بناء على توجيهات مباشرة من ديشامب نفسه، غير أن ما حدث لزيدان بعد ذلك كشف النقاب عن الحملات العنصرية التي تمارس ضد اللاعبين من ذوي الانتماء للغة الفرانكفونية.
كانت سياسة لوغريت إزاء هذه القضية تحمل منطق الغاية تبرر الوسيلة، بمعنى أن لوغريت اكتفى من معالجة القضية بملامسة التخوم على قدر الحاجة، لجذب أكبر قد ممكن من مزدوجي الجنسية (يأخذهم لحمًا ويرميهم عظمًا)، لكنه ابتعد بخبث عن التوغل إلى عمق القضية، حيث في الإعادة إفادة كما يقولون.
يعلم السياسيون الفرنسيون أن لوغريت غلط غلطة عمره، فاتحًا على نفسه باب جهنم، فمن دون شك ستكون قضيته مع زيدان فرصة سانحة لفتح ملفات أخرى تتعلق بالفساد، وبالتستر على قضايا أخلاقية أخرى، كفيلة بإرساله إلى ما وراء الشمس.
قرأت بيان لوغريت (الاعتذاري) كلمة كلمة، وشرحته حرفًا حرفًا، وضحكت مرتين:
مرة لأن شر البلية ما يضحك، و مرة ثانية لأنه تسول العفو بمبررات واهية مقلية على زيت الخداع و المراوغة.
منطقيًا لن تطوى حقبة لوغريت بتواريه عن الأنظار، بعد أن كلل مسيرته بعار الخروج من الباب الضيق، فما زال في جراب الحاوي الكثير من القضايا التي تستر عليها، إما لأنه كان طرفًا فيها، أو لأنه كان ضمن شبكة مافيا فساد، تلاعبت بالكثير من الملفات الأخلاقية.
تبدو مقولة "المرء حيث يضع نفسه" صادقة للغاية عندما يتم ربطها بما وصل إليه حال لوغريت، فهذا الرجل المنبوذ فرنسيا لم يعد يمتلك خيوط اللعبة، ولأن ما خفي عن هذا الرجل كان أعظم بكثير مما نشاهد اليوم، فلا شك أن هناك فضائح أخرى ستتكشف تباعًا عملًا بالمثل الفرنسي: المصائب لا تأتي فرادى.