ريال مدريد نحو النهاية.. إن لم نمت اليوم فنحن خالدون!
«إلى الأمام يا مدريد بأعلامنا النقية البيضاء التي لا تسوّد» يصرخ أحد مشجعي ريال مدريد طالباً من الجميع تشجيع ناديه، علّهم حسب وجهة نظره ينعمون بحياة رياضية ممتعة وصاخبة بالحب، على اعتبار أن الملكي كان عبر التاريخ عراقة متجددة، ويعد من يشتمه تماماً مثل من يهاجم عيد الحب، حسب مشجعين الملكي، ليعزي وحدته كونه لا يجد من يبتهج معه بمشاعر متقدّة، ويختم نداءاته بكلمات مؤثرة: "مدريد حياة ثانية، عشق مبلل بالسحر، دفق المطر على أرض عطشى، إيقاع راقص، لا يفنى ولا يموت".
لعلّ ذلك واحد من أساليب التعبير عن الانتماء الموغل في البلاغة، وهي الشيفرة التي تجعل من هذا الكيان صاحب مبادرة، شاسعة الفرق عن الآخرين، حتى وإن كان حسابياً كلّ الأندية أفضل من الميرنغي؛ لكنّه دائماً ما يتفوّق بحجم الانتماء والروح التي تلهمه وتحفّزه وتسيّج دربه نحو الألقاب.
ولعلّ تلك الحادثة الطريفة التي حصلت مع مجموعة صحافيين سنة 2014 خير تعبير عن واحدة من الذرى الدرامية في تاريخ النادي؛ ففي بيروت -وبينما كانت المدينة تنام وتصحو على لهب الانفجارات- اختار زملاء مهنة المتاعب إحدى مطاعم الضاحية الجنوبية لحضور نهائي دوري الأبطال وكانت الواقعة إسبانية بحتة بديربي مدريد بين الريال وأتليتكو، وبينما كان اثنان من الصحافيين المتعصبين لتشجيع الملكي والثالث رسّام كاريكاتور لا علاقة له بكرة القدم.
ظلّت المباراة تسير بتقدّم فرقة سميوني حتى الثواني الأخيرة من الدقيقة النهائية من الوقت بدل الضائع، حتى أحرز سيرجي راموس التعادل برأسية قاتلة، واشتعل المطعم الممتلئ بمشجعي مدريد، كأنه عبارة عن ملعب مصغّر، فإذا بالرسّام يختبئ تحت الطاولة، ظناً منه أن انفجاراً ما قد حصل في المدينة المهددة بمثل تلك الحوادث الدامية! فيما راح أكثر من نادل ينزلق على البلاط بسبب الزيت الذي انسكب على الأرض في لحظات الغياب عن الوعي للمشجعين! حينها ظنّ جمهور الريال أن هذا اللقب وتحديداً لحظة إحراز هدف التعادل ستكون ذروة المجد وأعلى مطارح الدراما في حياتهم، خاصة أنها كانت عودة اللقب الأحب بعد صيام 12 عاماً.
لكنّ عند الرابعة عشر تخطّى «لوس بلانكوس» أكثر لحظات المتعة التي صنعها تاريخياً، وتجاوز كلّ المتخيلّات الحكائية والصيغ الدرامية في أرشيفه، المسيرة كانت تستحق فيلماً وثائقياً، لكّن «آبل تي في» أنتجت سلسلة وثائقية من ثلاث حلقات بعنوان «الرابعة عشرة ريال مدريد حتى النهاية» انطلقت من رأسية راموس واللقب العاشر ثم الثلاثية المتلاحقة مع زيدان وبعدها لمحة سريعة عن الإخفاقات، قبل أن تفنّد مشوار الرابعة عشر.
السلسلة أتيحت للعرض في 10 آذار (مارس) الجاري، وفيها تعقّب ثري، ورصد تصاعدي للمشوار المسيّج بالدفق الآسر، والمعبّد بالدهشة نحو عديد الألقاب في موسم مزهر ومزدحم بالمنجزات المتلاحقة رغم كل التنبؤات بالخيبة. أهم تلك الألقاب الدوري الإسباني ودوري أبطال أوروبا.
في السلسلة الوثائقية التي انقسمت إلى ثلاثة عناوين هي: «إعادة البناء» ثم «ريمونتادا» وأخيراً «حتى النهاية» تتحقق مفارقة الاستعادة المحترفة من فريق العمل، لكواليس اللحظات التي نعرفها جيداً، وعشناها بدهشة عالياً، وتمثلّت بقوة خارقة للنادي الملكي في قلب الطاولة، والاستطاعة المدهشة نحو العودة، وتحطيم الخصم، خلال دقائق قليلة، وكيف يمكنه أن ينهض بلمح البصر، ويجهز على خصمه الذي ما يزال تحت وطأة الصدمة والذهول، حتى يكون قد تمكّن التقدّم مجدداً وإنهاء الأمور لصالحه متكئاً غالباً على لاعبه الـ12 -أي الجمهور- خاصة في استاد الجحيم أي ملعب «سانتياغو برنابيو» واللافت الذي يحسب للصناع بأن المشاهد رغم أنه يعرف كلّ لحظات الفيلم، إلا أنه يمتلئ حماساً ويتفاعل للحدود القصوى مع دراماتيكة الأحداث، وتسلسل المعطيات، والعودات المتتالية، واللقطات التي ستخلّدها الذاكرة، والمزج بين المشوار في دوري الأبطال المنسوج على درب الألق، وبين درب الدوري الإسباني الذي كان شبه محسوم لريال مدريد لكّنه صار بمثابة دافع معنوي وحافز حقيقي خاصة عند واقعة إشبيلية عندما كان في عزّه وقد تقدّم بهدفين مقابل لا شيء، ليعود الريال ويسجّل ثلاثة أهداف ويقترب من صدارة الليغا.
يضاف إلى ذلك لقاءات مع نجوم الموسم الماضي وبعض العاملين في النادي ورئيسه والمدرب وبعض الإعلاميين... ويتطرق للعنصر الملهم الذي كان يعمل من على الدكّة وهو البرازيلي مارسيلو، وكيف دفع به المدرّب أنشيلوتي رفقة مواطنه الشاب رودريغو في مباراة الإياب ضد تشيلسي، عندما كان الريال متأخراً بثلاثية، وكان لهذين التبديلين فائدة متكاملة بدفع روح معنوية وملهم مثل مارسيلو، وطاقة شابة وموهبة خارقة متلهفة للإنجاز مثل رودريغو، والذي اعتاد على تحقيق منفعة كلّ ما استعين به من كراسي البدلاء.
يعترف مارسيلو بقوله لمواطنه قبل الدخول لمباراة تشلسي إن عليه الهدوء والثقة لأن التسجيل من قبلهم قادم بكل تأكيد، ثم يوضح أمام كاميرا الفيلم بأن الهدف من ذلك كان استحضار الطاقة الإيجابية، والعمل على منطق الدعم المعنوي. وبالفعل جاء الفرج على قدمي البرازيلي الشاب ثم حسمها رأس بنزيما.
ستتعقب كاميرا الوثائقي المدرّب الإيطالي بعد انتهاء هذه المباراة ليقول جملة مترفة بالبلاغة: "كدت أن أموت، إن لم أمت اليوم فأنا خالد"، فيما يبوح نجوم الفريق عن كواليس المباريات المتتالية، خاصة العودة في الإياب ضد باريس، ثم لحظة رفع ألابا كرسي أحد عناصر الأمن في الملعب خلال الاحتفال بأحد الأهداف، وتحوّلت اللقطة إلى ظاهرة وماركة مسجلة باسم مشوار اللقب الرابع عشر. فيما يقول القائد الكرواتي لوكا مودريتش: "كانت مباراتنا سيئة في باريس لكن عندما انتهت توجهت إلى كارفخال وقلت له سندمرهم في البيرنابيو".
حرفة الوثائقي تمكّنت من استعادة اللحظات الوجدانية والعاطفية في هذه الدرب، وترك اللاعبين إعادة مشاهدتها، كذلك التركيز على الدقائق والساعات التي كانت تسبق المباريات خاصة المباراة النهائية أمام ليفربول.