الذكاء الاصطناعي يهدد حلاوة كرة القدم!
الأكيد أن الذكاء الاصطناعي يواصل تقدمه، ويومًا بعد الآخر يتصاعد الجدل حوله بين ما يرون فيه خطرًا كبيرًا يهدد الوجود البشري في الصميم وبين ما ينظرون إليه بوصفه طفرة تكنولوجية هائلة يجب توظيفها جيدًا في عالم باتت التقنية تتحكم في الكثير من أموره على مدار الساعة.
كرة القدم الملقبة دوليًا بالساحرة المستديرة ليست بعيدة أبدًا عن صخب الذكاء الاصطناعي الذي يشيطنه البعض فيما يصعد به آخرون إلى عنان السماء، منذ عدة أيام عندما خرج الذكاء الاصطناعي ليخالف كل توقعات المحللين مؤكدًا أن أرسنال رغم نزيف النقاط الذي يعاني منه في الدوري الإنجليزي فإنه سوف يتوج بالبطولة في نهاية المطاف.
مرة أخرى نجد أنفسنا مدعوون للتفكير بصوت عالٍ، هل علينا فعلًا أن نصدق الذكاء الاصطناعي؟ ونكذب أعيننا والتي ترى بوضوح مانشستر سيتي وهو يظفر باللقب، بعد إزاحة أرسنال.
لسنا هنا بالطبع بصدد مناقشة متى تصيب توقعات الذكاء الاصطناعي ومتى تخطئ؟ ولكننا نضرب مثالًا سريعًا على كيف ستبدو الصورة خلال فترة وجيزة عندما يواصل الذكاء الاصطناعي زحفه شيئًا فشيئًا ليطول لعبة تظل رغم كل شيء محكومة بقواعد الموهبة والمهارة البشرية في أرض الملعب.
الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الملاعب يفيد كثيًرا في نقل المشاهدين خلف الشاشات في المنازل إلى أجواء الحدث ليشعر كل منا وكأنه جالس تمامًا في المدرج ويقوم بتشجيع فريقه بحماس منقطع النظير.
عندما نتحدث عن الذكاء الاصطناعي وتأثيراته يجب أن ننتبه إلى أن هناك خيطًا فاصلًا دقيقًا بين توظيفه فيما ينفع الناس وما يخدم هذه اللعبة وبين استخدامه كسلاح لضربها في الصميم، وفي ظل هذا علينا أن ننتبه جيدًا إلى الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتحول خلال الفترة القادمة إلى أداة للإضرار بمنتخبات وفرق ولاعبين لحساب منافسين أو جهات أخرى عبر ترويج معلومات أو بيانات ربما تكون غير دقيقة أو مجتزئة من سياقها ونسبتها للذكاء الاصطناعي.
الكرة تبقى في الملعب رغم كل شيء، فالتطور التكنولوجي مهما بلغت درجته لا يمكن أن يمنح فريقًا الأفضلية على آخر، جزءًا كبيرًا من متعة كرة القدم تبقى في أنها تظل دائمًا خارج دائرة التوقعات، دومًا لا نعلم من سيفوز ومن سيهزم.
وإذا سلمنا بأن الذكاء الاصطناعي في قدرته أن يحدد هوية الفريق الفائز بالدوري الإنجليزي أو الدوري الفرنسي؛ فإننا حتمًا سوف نفقد جزءًا كبيرًا من شغفنا بكرة القدم.
يرى «إدواردو غاليانو» أن تاريخ كرة القدم هو رحلة حزينة من نور المتعة إلى ظلام الواجب، فمع تحول اللعبة إلى صناعة تم لفظ الجَمَال التي خُلقت لأجله منها.
أصبح الأمر الآن في كرة القدم الاحترافية يتمحور حول التكتيكات الصارمة التي يرسمها كل مدرب للاعبيه، تغير المزاج العام للجماهير من الاستمتاع بما يدور على أرضية الميدان، إلى محاولة فهم كافة تفاصيل مجريات اللقاء.
في شهر آذار/مارس من عام 1950، كان هناك محاسبٌ وضابطٌ عسكري يُعرف باسم "تشارلز ريب" يشاهد مباراةً في دوري الدرجة الثالثة من الدوري الإنجليزي بين فريقي سويندون تاون وبريستون سيتي. ويبدو أن ريب قد ضاق ذرعًا بالعقم الهجومي لدى الفريقين، أو ملّ من مجرّد مشاهدة المباراة، فجلب ورقةً وقلمًا، وبدأ يُحصي عدد التمريرات والتسديدات.
استنتج ريب وقتها أن معظم الأهداف تأتي من هجماتٍ لا تتجاوز عدد التمريرات فيها أربع تمريرات، وهو ما أصبح لاحقًا حجر زاوية الأسلوب الإنجليزي الذي يعتمد على التمريرات المباشرة الطويلة نحو مرمى الخصم.
يُعدّ ذلك ربما المحاولة المنهجية الأولى لجمع الإحصائيات والاسترشاد بها لـ"ترويض" فوضى كرة القدم، ولا شكّ أن ريب لم يكن يعرف أن تلك الأرقام البسيطة التي دوّنها قد أذنت ببداية عالمٍ ضخمٍ بالغ التعقيد هو الإحصائيات التي يحاول بها المحلّلون والجمهور، بهوسٍ لا نهاية له، تكميم كل جانبٍ من "اللعبة الجميلة"؛ إذ أصبحنا اليوم لا نحسب مجرّد عدد التمريرات والتسديدات والدقائق، بل أصبح هناك الـxG (احتمال تسجيل الهدف)، ومعدّل الجري، والضغط، والعرضيات، والاعتراضات، ورميات التماس، وفي أي دقيقةٍ تدخل معظم الأهداف، والخرائط الحرارية، ومعدّل التسجيل والصناعة، والمواجهات التاريخية، بل حتى تتنبأ الإحصائيات بنتيجة المباراة باستخدام بياناتٍ حية بناءً على النتائج السابقة لكل فريق، هذا غير الجانب الاقتصادي والمالي لكرة القدم، وكل ذلك ألزم الأندية الرياضية بالاستعانة بحملة شهادات الدكتوراة في الرياضيات والإحصاء والاحتمالات والاقتصاد ونظرية اللعبة وغير ذلك.
في ظلّ كل ذلك كان التساؤل البديهي، ونحن اليوم نعيش ثورة الذكاء الاصطناعي، عن التزاوج الذي قد يبدو حتميًا بين الرياضة والذكاء الاصطناعي، ولعلّ القارئ يتخيّل الآن أنشيلوتي أو كلوب وهما يسألان مذعورين "تشات جي بي تي" عن كيفية قلب النتيجة في آخر 10 دقائق، أو ما هو أبعد من ذلك، دوريّ كلّ مدرّبيه هم برامج ذكاء اصطناعي.
وحتى مع الاعتماد الهائل على البيانات، لا يُوجد حتى اليوم نادٍ كبيرٍ يجرؤ على الاستغناء عن طاقمه التدريبي البشري من مدرّبين ومحلّلين ومعدّين بدنيين وكشّافين تختلف اختصاصاتهم، كما يعرف المولعون بمتابعة كرة القدم. أي أن الكرة ما تزال متردّدةٌ بتجاوز الخط بين البشري والآلي.
فغالبًا ما يمكن للذكاء الاصطناعي معالجة معلومات أكثر من البشر، لكن هذا لا يمتد إلى قدرتنا على التفكير بالقياس. ويعتبر هذا النوع من التفكير أعظم قوة للذكاء البشري.