إدواردو غاليانو: قل لي كيف تلعب أقل لك من أنت؟!
في «استاد ماراكانا» وقف الأسطورة البرازيلية بيليه وتناول الكرّة وقبّلها من كلّ قلبه، بمناسبة تسجيله الهدف رقم ألف! بينما أقام لها الأرجنتيني دي ستيفانو نصبًا عند مدخل بيته، وهو عبارة عن كرة من البرونز مع لوح حجري نُقش عليه عبارة: "شكرًا أيتها العجوز". فيما وصل الإيمان بإمكانية وفاء الكرة لأصحابها، لدرجة مُطالبة المنتخبين المتنافسين في نهائي عام 1930 للعب بكرة مصنوعة في بلادهم، فأمسك الحكم العصا من المنتصف باقتراح تاريخي وهي أن يُلعب الشوط الأوّل بكرة أرجنتينية، ثم الشوط الثاني بكرة أوروغوايانية!
وبالفعل كانت النتيجة في الشوط الأوّل لصالح الأرجنتين، وفي الثاني لصالح الأوروغواي، لكنّ الكرة لم تنتظم بالوفاء بهذا الشكل لأصحابها، فكم من مرّات كانت سببًا صريحًا للخذلان وكسر القلوب عندما تنحرف عن الشباك في اللحظات القاتلة أو تقرر الاصطدام بالقائم والتدحرج البطيء خارج الخطوط، يتبع ذلك صمت بليغ!
على كلّ الأحوال وعلى ذكر الأوروغواي يُعتبَر الكاتب المنحدر من هذه البلاد إدواردو غاليانو واحدًا من أهم مَن حكوا عن كرّة القدم وصاغ العلاقة العاطفية معها بلغة أدبية رفيعة في كتابه: «كرة القدم في الشمس والظل» (ترجمة صالح علماني).
المترجم الفلسطيني السوري كرّس حياته لنقل أمهات الأدب العالمي، وتحديدًا من أمريكا اللاتينية إلى اللغة العربية، وبطريقة لمّاحة وذكية توازي ابتكار وإلهام التأليف، من خلال صوغ الحالة الروائية بطريقة تنسجم مع اللغة العربية وصورها وتشبيهاتها وخصوصيتها المفرطة!
وفي هذا الكتاب يعلنها غاليانو صراحة: "قُل لي كيف تلعب؛ أقل لك من أنت!» إذ يعتقد بأن الثقافة السائدة في المجتمع تنعكس على أداء فريق كرة القدم".
فيما يعترف بدون مواربة عن حلمه بأن يكون لاعبًا : "لقد رغبت مثل جميع الأوروغوايانيين في أن أصبح لاعب كرة قدم، وقد كنت ألعب جيدًا، كنتُ رائعًا؛ لكن في الليل فقط، في أثناء نومي: أمّا في النھار فأنا أسوأ قدم متخشبة قد شھدتھا ملاعب الأحياء في بلادي".
لقد مرت السنوات، ومع مرور الوقت انتھيت إلى القناعة بھويتي: "فأنا مجرد متسوّل أطلب كرة قدم جيدة. أمضي عبر العالم حاملًا قبعتي، وأتوسّل في الاستادات: لعبة جميلة حبًّا بالرب! وعندما أرى كرة قدم جيدة، أحمد ھذه المعجزة دون أن يھمني قدر فجلة من النادي أو البلد الذي قدّم ذلك اللعب الجيد".
فيما يسرد قصة الكرة وكيف تعلّقت بها الشعوب، ودّونتها الحضارات واهتم بها القياصرة والملوك، كما يرصد الفرمانات الرسمية التي صدرت من السلاطين والحكّام بشأن كرة القدم، ويتوقّف أمام تاريخ ممتد كانت فيه الكرة حكاية تقطف الذرى الهائمة بالسحر!
فيما ينفرد بوصفٍ موغلٍ بالعمق لحال الملاعب قبل أن يغزوها الجمهور ويمتلئ بالصخب والفرح والتباينات المذهلة، وبعدما يغادرها كيف تصبح أوقاته مثل ليل أرملة وحيدة مات زوجها بعزّ شبابه، وانفضّ أولادها عنها في زواريب الحياة بحثًا عن فرص موعودة بعيدًا عن بيت العائلة!
الكاتب والفنان الأوروغواياني يهدي كتابه إلى.. أولئك الأطفال الذين التقيت بھم ذات مرة، قبل سنوات عديدة، في كاليّا دي لاكوستا. كانوا عائدين من لعب كرة القدم وھم يغنون: ربحنا أم خسرنا، لن تتبدل متعتنا، متعتنا تبقى كما هي سواء خسرنا أم ربحنا.
أيضًا يروي خطوات هذه اللعبة وكيف انتقلت لتوصل كلّ من يقع في عشقها إلى الجنون، ويروي كيف بعد مونديال 1994، أُطلِق اسم روماريو على جميع الأطفال الذين وُلدوا في البرازيل، وتم بيع عشب استاد لوس أنجلوس أجزاءً في قطع صغيرة مثل البيتزا، ووصل سعر القطعة عشرين دولارًا.
فيما يغوص بما يشبه البحث الاستقصائي عن أصل اللعبة ويصل إلى نتيجة مفادها أن هناك مباريات أقيمت خلال الحضارتين اليونانية والرومانية، إلّا أنه يؤكد أن الفراعنة عرفوا تلك اللعبة، ويؤكد غاليانو أن كرة القدم وعبر تاريخها ظلت لعبة جماعية تتحدى القوانين والأعراف وأحيانا تخترق كل القواعد، ففي القرن الرابع عشر ظلت كرة القدم مجرد لعبة يمارسها الرعاع ولا تليق بالنبلاء، حتى جاء زمن الملكة فيكتوريا التي رأت أن كرة القدم تسلية لطيفة تنأى بشعبها عن الانحراف أو الغرق في الملذات الإباحية، كما نظرت إليها نظرة أكثر خبثًا حين اعتبرتها ملهاة للشعب عنها، وفى عهدها لم تعد كرة القدم رذيلة يمارسها الرعاع وحدهم، بل فضيلة أرستقراطية توفر للفقراء التسلية وتبعدهم عن الإضرابات والأفكار المنحدرة!
كذلك يفيد غاليانو أن اللعبة عُرِفت في الصين قبل نحو أربعة آلاف عام، وكانت تُسمَّى "تسو تشو" وكتب أحد المؤرخين أن اليابان عرفت كرة القدم منذ أربعة عشر قرنًا مضى، وكان اسمها "كيماري" وفي رواية أخرى نجد أن الرومان توارثوها ثم نقلوها إلى غرب أوروبا، ثم إلى بريطانيا عندما احتلوها.
بكل الأحوال وأينما كان أصل اللعبة، يبقى الكاتب الشهير ومُنجَزه في هذا المجال بمثابة شعلة متّقدة تغوص عميقًا في فلسفة الجمال لكرة القدم، ومجد الدراما المتوّهج في فعل التشجيع، وزحف الجماهير نحو الملاعب حول العالم، وتبقى الكرة مهما كان أصلها سببًا رئيسيًّا في صنع مساحة مترفة من الفرح والإقبال على الحياة؛ مهما كانت مسوّرة باليأس والإحباط والظروف الكالحة!