مبارزة عليّ بن أبي طالب وعمرو بن عبد ودّ.. ودروسٌ رياضيّة

تاريخ النشر:
2023-02-02 13:00
صورة أرشيفية لممارسة رياضة المبارزة (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

من نماذج المبارزة الشّهيرة للغاية في السّيرة النبويّة وفي التّاريخ الإسلامي عمومًا، المبارزة التي وقعت في ثنايا غزوة الخندق بين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وبين عمرو بن عبد ودّ العامري.

من هو فارسُ الليل؟

كان عمرو بن عبد ودّ العامريّ القرشيّ يُلقّبُ عند العرب بـ"فارس الليل" وقصّة هذا اللّقب أنه كان في إحدى الليالي يسير بفرسه مع عدد من أصحابه فهجم عليهم عشرة فرسان في وادٍ فهرب جميع أصدقائه وثبت هو وحده يصارع الفرسان، وكانوا عصابةً من قُطاع الطّرق الأشدّاء المشهورين ببأسهم وسطوتهم وانتصر عليهم وحده فسمي من ذلك اليوم بفارس الليل، واشتهر ذكره في الجزيرة العربيّة بقوته وكانت العرب تهابه وتخاف منهُ.

واشترك مع المشركين يوم بدر فأصيب إصابةً بليغة تغيّب بسببها عن غزوة أحد لكنّه شارك في غزوة الخندق، وكان من الفرسان الذين حاولوا تجاوز الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع أصحابه حول المدينة، وتفيد الرّوايات المختلفة أنّه قد بلغ يومها ثمانين سنةً وكان ما يزال في أوج قوّته وهيبته.

وفي هذا ملمح مهمّ وهو أنّ من يواظب على الرّياضة البدنيّة ومنها الفروسيّة والمبارزة اللتان كان يمارسهما عمرو بن ودّ العامريّ أو غيرها من الرّياضات البدنيّة كالمشي والجري وغيرها يحتفظ بقوّته ولياقته مع تقدّم عمره، ويحافظ على عزيمته في شيخوخته ويبقى قويًّا تسري فيه همّة الشباب ولياقة الشّباب.

وقائع وتفاصيل المبارزة

يروي ابن إسحق قائلًا: "ثُمّ تَيَمّمُوا مَكَانًا ضَيّقًا مِنْ الْخَنْدَقِ، فَضَرَبُوا خَيْلَهُمْ فَاقْتَحَمَتْ مِنْهُ، فَجَالَتْ بِهِمْ فِي السّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ، وَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، حَتّى أَخَذُوا عَلَيْهِمْ الثّغرة التى أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ودّ قَدْ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ حَتّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَلَمْ يَشْهَدْ يَوْمَ أُحُدٍ؛ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ خَرَجَ مُعْلِمًا لِيُرِيَ مَكَانَهُ. فَلَمّا وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ، قَالَ: مَنْ يُبَارِزُ؟"
وأخذ عمرو بن عبد ودّ يرتجز:
ولَقَدْ بُحِحْتُ من النداء 
 بجمعكم هَلْ مِنْ مُبارزْ

وَوَقفْتُ إذ جَبنَ المُشَجَّعُ 
مَـوقفَ البَطَل المناجِزْ

إنّـي كـذلك لـم أزلْ 
 متسرّعًا نحو الهزاهزْ

إنّ السّماحة والشّجاعة 
 في الفتى خيْرُ الغرائزْ

ويذكر ابن إسحق والبيهقي وغيرهما ردّة الفعل على بروز عمرو بن عبد ودّ العامري: "فقامَ عليٌّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- وهو مُقَنَّع في الحَديدِ فقالَ: أنا لَها يا نَبِيَّ الله. فقالَ: إنَّه عمرٌو، اجلِسْ؛ ونادَى عمرٌو: ألا رَجُلٌ؟ وهو يُؤَنَبُهُم ويَقولُ: أينَ جَنَّتُكُمُ التي تَزعُمونَ أنَّه مَن قُتِلَ مِنكُم دَخَلَها؟ أفَلا يَبرُزُ إلَيَّ رَجُل؟

فقامَ عليٌّ رَضِيَ الله عَنْهُ فقالَ: أنا يا رسولَ الله؛ فقالَ: اجلِسْ.
ثُمَّ نادَى الثَّالِثَةَ وذَكَرَ شِعرًا، فقامَ عليٌّ فقالَ: يا رسولَ الله أنا؛ فقالَ: إنَّه عمرٌو، قال: وإِن كان عَمرًا.
فأَذِنَ له رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمَشَى إلَيه حَتَّى أتاه وذَكَرَ شِعرًا".

وتقدّم عليّ -رضي الله عنه- وارتجز في الردّ على ارتجاز عمرو بن عبد ودّ العامريّ:
لا تـعجلنَّ فـقد أتاك 
مجيبُ صوتكَ غير عاجزْ

ذُو نــيـّةٍ وَبـصـيرةٍ 
والصدقُ مُنجي كلّ فائزْ

إنّـي لأرجـو أن أُقـيمَ 
عـليكَ نـائحة الـجنائزْ

مِـنْ ضَرْبَة نَجلاء يَبقى 
ذكـرُها عِـندَ الـهَزاهِزْ

ومن فوائد ذكر هذا الارتجاز هو إثارة الحماسة في نفوس المتبارزين والمتابعين، وفيه رسالةٌ مهمّة تفيدُ أنّ إثارة الحماس في نفوس المتبارزين عن طريق ترديد عبارات أو هتافات تثير الحماسة سواء كانت صادرة منهم أم من المشجعين، وهو من الأمور التي كان متعارف عليها وما تزال في تاريخ العرب ولها أثر كبيرٌ في سير المنازلات.

ودار بعد ذلك بينهما الحوار الآتي:
قالَ له عمرٌو: مَن أنتَ؟ 
قال: أنا عليٌّ .
قال: ابنُ عبدِ مَنافٍ؟
فقالَ: أنا عليُّ بنُ أبي طالِبٍ.
فقالَ: غَيرُكُ يا ابنَ أخِي مِن أعمامِكَ مَن هو أسَنُّ مِنكَ، فإِنِّي أكرَهُ أن أُهَريقَ دَمَكَ .
فقالَ عليٌّ رضي الله عنه: لَكِنَي واللهِ ما أكرَهُ أن أُهَريقَ دَمَكَ .

فغَضبَ فنَزَلَ وسَلَّ سَيفَه كأنَهّ شُعلَةُ نارٍ، ثُمَّ أقبَلَ نَحوَ عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُغضبًا، واستَقبَلَه عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بدَرَقَتِه، فضَرَبَه عمرٌو في الدَّرَقَةِ فقَدَّها، وأَثبَتَ فيها السَّيفَ وأَصابَ رأسَه بشَجَّةٍ، وضَرَبَه عليٌّ على حَبلِ العاتِقِ فسَقَطَ، وثارَ العَجَاجُ، وسَمِعَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّكبيرَ، فعَرَفَ أن عَليًّا قَد قَتَلَه.

ويلخّص ابن القيّم في زاد المعاد المشهد كلّه مبينًا أثر المبارزة في سير المعركة فيقول: "وَأَقَامَ الْمُشْرِكُونَ مُحَاصِرِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ لِأَجْلِ مَا حَالَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْخَنْدَقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّ فَوَارِسَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ عمرو بن عبد ود، وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ أَقْبَلُوا نَحْوَ الْخَنْدَقِ، فَلَمَّا وَقَفُوا عَلَيْهِ قَالُوا: إنَّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهَا، ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَانًا ضَيِّقًا مِنَ الْخَنْدَقِ، فَاقْتَحَمُوهُ، وَجَالَتْ بِهِمْ خَيْلُهُمْ فِي السَّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ، وَدَعَوْا إِلَى الْبِرَازِ، فَانْتُدِبَ لعمرو عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَبَارَزَهُ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَكَانَ مِنْ شُجْعَانِ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْطَالِهِمْ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ إلَى أَصْحَابِهِمْ".

ويروى أنّ عليًّا رضي الله عنه أنشد بعد انتهاء المبارزة، وكثيرون يقولون إنّ الأبيات لغير عليّ ولكنّه أجراها على لسانه؛ وهي:
نصرَ الحجارة من سفاهة رأيه
ونصرتُ ربّ محمدٍ بصوابي

فصددتُ حين تركتُه متجدّلًا
كالجذعِ بين دكادك وروابي

وعففتُ عن أثوابه ولو أنّني
كنت المقطَّر بزَّنى أثوابي

لا تحسبنّ الله خاذل دينه
ونبيّه يا معشرَ الأحزابِ

شارك: