كيف نظر علماء الاجتماع إلى الماهيّة الاجتماعيّة للرّياضة؟
من الإشكالات الحقيقيّة عند الحديث عن الرّياضة أن يقتصر مفهومها على التصور الضيّق المرتبط بالجهد البدني والمتحقّق بإنجاز أهداف تنافسيّة خالصة؛ إنّ الاقتصار على هذا المفهوم هو اختزال لما تنطوي عليه ماهيّة الرياضة في الحقيقة والواقع فهي مفهومٌ أكثر اتساعًا وثراءً وتحقّقًا وتغلغلًا في المجال والواقع الاجتماعي والثقافي.
إنّ الرياضة تنطوي على معانٍ عميقة ترتبط في عمومها بمجموع العلاقات الاجتماعية، فلا يستطيع أحد أن ينكر الوجه الاتصاليّ الذي تحدثه الرياضة ويكون له تأثير بالغ في إثراء التفاعل البشري.
وهذا ما دعا بعض العلماء إلى وصف ملاعب كرة القدم الإنجليزية بأنها مجالات صالحة للتعبير الطقوسي عن الحرمان أو العدوان؛ يحاول الفرد فيها أن يثبت هويته ويؤكد انتماءه وقيمته على المستوى الشخصي، وهذا من تجليّات المعاني الاجتماعيّة التي تنطوي عليها الرّياضة.
وينقل الدكتور أمين الخولي في كتابه القيّم "الرياضة والمجتمع" عن "لارسون" اعتقاده أن الرياضة تقدم وسطًا شخصيًا واحدًا مع أقلّ حدّ من قيود العلاقات الاجتماعية التفاعلية؛ وبذلك يتجه الإنسان في أثناء ممارسة الرّياضة إلى النّسق الطّبيعي؛ فيتخفّف من قيود النّسق الاجتماعي التي تثقل كاهله؛ كالوظيفة الاجتماعية وتبعاتها من أمور قد تحدّ حريّة الإنسان وتقيّد تصرفاته في أطر معينة.
وحتى نفهم هذا البعد؛ علينا أن نتخيّل مباراة رياضيّة في إحدى الوحدات العسكرية؛ حيث يتخلّص الضابط من تبعات النسق الاجتماعي الرّسمي ويندمج مع جنوده ممارسًا الرّياضة فتسري عليه قواعد اللّعب لا فرق في ذلك بينه وبين جنوده في الحالة.
ويتابع الخولي قائلًا: "ولكن يتحفّظ لارسون فيما يتصل بالطبيعة الأخلاقية للرياضة فلها نصيب بذلك كما لها جانب غير أخلاقي؛ ذلك لأن النّسق الطبيعي نفسه تسري عليه تقاليد الحياة الطبيعية وسننها من خير وشر".
أمّا الرّوسي "ماتفيف" فإنّه يعتقد أنّه من الصعب تحديد الجوهر الفعلي للرّياضة بمجرّد الاستنتاج البسيط لتضمّناتها البيولوجية أو البيوفيزيائية مثل الاحتياجات التلقائية نحو النشاط الحركي أو رغبة الفرد في التّخلص من العدوانية؛ كما أن محاولات تصوير الرياضة كملاذ أو مهرب يلجأ إليه الإنسان ليبعد عن مشاكل حياته اليومية المريرة؛ أو على أنها أحد السبل المتاحة للتنفيس عن النوازع أو للتعبير عن النّفس بطريقة تتسم بالتخلص من القيود؛ هي أيضًا مجموعة من المفاهيم الاجتماعية المفلسة البعيدة عن جوهر الرياضة الحقيقي وهي -على حدّ تعبيره- أحد مزاعم الاتجاه الغربي البورجوازي لعلم اجتماع الرياضة.
وفي هذا الصدد يرى "ماتفيف" أن جوهر الرياضة يتمثل في الرغبة الدائمة للإنسان بتخطي قدراته وتوسيع مجالها وحدودها؛ وهي إدراك من خلال إعداد ومشاركة منظمة لمنافسة مرتبطة بتخطي الصعاب؛ والمبنية على عالم شمولي من المشاعر الفياضة المتولدة من الانتصارات والهزائم في محيط العلاقات الإنسانية؛ ولذلك فقد صارت الرّياضة من أكثر العروض التي يشاهدها الإنسان شعبية وإقبالًا، كما أنها تشكّل حركة اجتماعية جماهيرية معاصرة لا يستهان بها.
أمّا عالم اجتماع الرياضة البولندي "وهل wohl" فقد أشار من خلال تحليله لنشأة الرياضة المعاصرة في بريطانيا أنه يرفض فكرة بعض الباحثين القائمة على أنّ الرياضة ظهرت بوصفها نشاطًا لبعض التربويين، كما اعترض أيضًا على محاولات الربط بين تقدم الرياضة في بريطانيا وبين ميراث الرومان القدماء وتقاليدهم الرياضية المعروفة.
ويعتقد "وهل" أن الرياضة في شكلها الأصلي بزغت بوصفها نتيجة للتغير الاجتماعي "Social Change" وبالتّحديد مع بداية ظهور الطبقة الأرستقراطية غير المرتبطة بالإنتاج في القرن السّابع عشر والتي شكّلت ظروفها وقت فراغ هائل؛ وكان تعاطي الرياضة بالنسبة لهذه الطبقة أحد الحلول التي بها يُشغل وقت الفراغ؛ وبالتدريج أصبحت الرياضة جزءًا من أسلوب معيشة اللوردات.
ويشير "إدواردز" في كتابه "علم اجتماع الرياضة" إلى أنه قام بدراسة دور الرياضة في المجتمع الأمريكي وعمد إلى تحليل ذلك الدور من خلال دراسة مقومات المجتمع نفسه وخلص إلى أن الرياضة في المجتمع الأمريكي هي شكل من أشكال تحقيق الأدوار والحراك الاجتماعي، في أن ذلك يتم فقط من خلال سياقات القيم القومية الشعبية الثابتة للمجتمع الأمريكي.
هذه الأقوال وغيرها من أقوال علماء الاجتماع تؤكّد حقيقة لا بد أن تبقى حاضرة عند التعامل مع الرياضة، وهي أنّ الرياضة ليست مجرّد أنشطة بدنيّة أو مسابقات تنافسيّة بل هي جزء من الماهية الاجتماعيّة لأيّ مجتمع؛ تسهم في صياغة البنيّة الاجتماعيّة، وتتغلغل في أعماق المجتمع وتصنع الظواهر المجتمعيّة، فمن أراد فهم أيّ مجتمع من المجتمعات فلا غنى له عن دراسة رياضاته، ومن أراد التأثير في أيّ مجتمع من المجتمعات وصياغة المنظومة الاجتماعيّة فكرًا وثقافة وتوجهًا فلا غنى له عن استغلال الرياضة واستخدامها في تحقيق ذلك.