قَعُودُ أعرابيّ يسبق ناقةَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم

تحديثات مباشرة
Off
تاريخ النشر:
2023-06-03 14:03
صورة معبرة للسباقات التي كانت تجمع الجمال والنياق في قديم الزمان (Getty)
Source
المصدر
winwin
+ الخط -

في يومٍ من الأيّام النبويّة وقعت مسابقةٌ طريفةٌ بين ناقة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وبين قَعُود أعرابي، والقَعودُ: هو الجمل الذي يغدو ممكنًا ركوبه والتنقل به، وذلك الأمر لا يتم قبل عامين من ولادته، قال ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري شرح صحيح البخاري": "قَعُودٍ: بِفَتْحِ الْقَافِ مَا اسْتَحَقَّ الرُّكُوبَ مِنَ الْإِبِلِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْبَكْرُ حَتَّى يُرْكَبَ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ سَنَتَيْنِ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ السَّادِسَةَ فَيُسَمَّى جَمَلًا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَا يُقَالُ إِلَّا لِلذَّكَرِ، وَلَا يُقَالُ لِلْأُنْثَى قَعُودَةٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا قَلُوصٌ"

أمّا ناقة النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- فكان يطلق عليها اسم "العضباء"، وهنا يمكننا القول إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان عنده عدة نياق للركوب وكان يُطلِق على كلّ واحدة منها اسمًا خاصًا بها، فإلى جانب ناقته العضباء كان عنده أيضًا القصواء، وهي التي هاجر عليها، والأخرى تسمى الجدعاء، وكانت ناقته العضباء مشهورةٌ بسرعتها فكان الصحب الكرام رضي الله عنهم يقولون: "العضباء لا تُسْبَق".

وهناك من العلماء من قال إنّها ناقةٌ واحدة لها أسماء ثلاثة، ونقل ابن حجر طرفًا من النقاش حول ذلك فقال: "وَاخْتُلِفَ هَلِ الْعَضْبَاءُ هِيَ الْقَصْوَاءُ أَوْ غَيْرُهَا؟ فَجَزَمَ الْحَرْبِيُّ بِالْأَوَّلِ وَقَالَ: تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ وَالْقَصْوَاءَ وَالْجَدْعَاءَ، وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ بِالثَّانِي وَقَالَ: الْجَدْعَاءُ كَانَتْ شَهْبَاءَ وَكَانَ لَا يَحْمِلُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحَيِ غَيْرُهَا، وَذُكِرَ لَهُ عِدَّةُ نُوقٍ غَيْرُ هَذِهِ تَتَبَّعَهَا مَنِ اعْتَنَى بِجَمْعِ السِّيرَةِ"

وفي يوم من الأيّام حدث سباق بين العضباء وبين قعود أعرابي حدثت فيه مفاجأة ينقلها لنا البخاريّ في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانَ للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ناقَةٌ تُسَمَّى العَضْباءَ، لا تُسْبَقُ، قالَ حُمَيْدٌ: أوْ لا تَكادُ تُسْبَقُ؛ فَجاءَ أعْرابِيٌّ علَى قَعُودٍ فَسَبَقَها، فَشَقَّ ذلكَ علَى المُسْلِمِينَ حتَّى عَرَفَهُ، فقالَ: حَقٌّ علَى اللَّهِ أنْ لا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِنَ الدُّنْيا إلَّا وضَعَهُ".

في هذا المشهد السباقي الجميل تتجلى معانٍ بالغة الأهميّة، منها:

أولًا: إعطاء تصور دقيق وصورة حقيقيّة عن حياة النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- التي كانت مصطبغة بالجدية والصبر والمصابرة والمثابرة؛ لكنها لم تخلُ من أوقات الترويح عن النفس والاستجمام وأخذ أقساط من الراحة والمتعة للانطلاق في ميادين العمل مجددًا بقوة كبرى وانطلاق أشدّ.

ثانيًا: تبيّن حادثة المسابقة عظيم تواضع النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- فهو الذي كان يعيش بين أصحابه كواحد منهم رغم أنّ له صفة سياسيّة وهي أنّه الحاكم السياسيّ للبلاد إلى جانب كونه نبيًّا مرسلًا، فكان يعيشُ معهم تفاصيل حياتهم ويشاركهم ساعات الترويح عن النّفس.

ثالثًا: أن يسبقَ قَعود أعرابيّ بسيط -ربما لا يعرفه أحد- ناقة النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- فيه رسالة أنّ أيّ إنسان بسيط كان يمارس المنافسة مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- دون شعور بأدنى حرج، بل إنّ في ذلك رسالة أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وهو رسول الله والحاكم للدولة الإسلاميّة يتقبّل خسارة ناقته في السباق دون أدنى غضاضة؛ فما أعظمه من مشهد لو كان الناس يعقلون.

رابعًا: يبيّن المشهد حماسة أصحاب النبيّ -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- وهي صورة المشجعين في كلّ زمان ومكان، يحزنون لخسارة فريقهم الذي يشجعون، ويشعرون بالمفاجأة من خسارة من يظنون أنّه لا يمكن أن يخسر، فيشقّ ذلك على نفوسهم ويشعرون بالحزن، غير أنّ هذا لا يخرجهم عن العدل في التعامل بتقبّل الخسارة والأخلاق في السلوك بعدم التطاول على من فاز وربح.

خامسًا: استثمار النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- هذه الأحداث والمناسبات الترويحيّة عن النفس لإيصال رسائل تربويّة عميقة وبناء النفوس على التواضع والبعد عن الغرور وفهم طبائع المخلوقين، وأّنهم ما ارتفع منهم أو لهم شيء إلّا وضعه الله تعالى ليعلم البشر حجمهم الطبيعيّ فلا يصيبهم الغرور أو التكبّر.

لقد كان سباقًا نادرًا فيه من الروح الرياضيّة الحقيقيّة والأخلاق السامية والدروس النفسيّة الأخلاقيّة ما يحتاجه كلّ رياضيّ في كلّ زمانٍ ومكان.

شارك: